تشهد تونس في الثالث والعشرين من هذا الشهر تنظيم الانتخابات الرئاسية الأولى بعد سقوط النظام) 14 يناير 2011(، واستكمال الحلقة الأخيرة في سيرورة الانتقال الديمقراطي. ولأنها لحظة سياسية مهمة في مسار البناء الجديد، فقد عرفت تضخما كميا على صعيد المترشحين )70 مترشحا)، قبل أن تُعلن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلغاء 41 طلبا، وتُبقي على 27، ويُقدِّم اثنان استقالتهما. أما نوعية الترشيحات، فتأرجحت بين المنتسبين إلى أحزاب سياسية قديمة وحديثة، وأسماء مستقلة قاربت النصف )13 مترشحا(، وحدها حركة النهضة لم تقدم أي مترشح، وترك برلمانها) مجلس الشورى( الحريةَ للأعضاء للتصويت على من يرونَه جديرا بتحمل مهام مؤسسة الرئاسة في تونس. لاشك أن ثمة رهانات كثيرة على مؤسسة الرئاسة في تونس، على الرغم من الجدل الدائر منذ الشروع في صياغة الدستور، بين من أراد أن يكون الرئيس مجرد حَكَم بين المؤسسات الدستورية، والفرقاء السياسيين بشكل عام، وبين من يريد أن تُنزَع عنه مظاهر الشخصَنة، التي حولت النظام الرئاسي في تونس إلى نظام «رئاسوي» مُتغول، يُهيمن على ما حوله من مؤسسات، ويتحكم في أدائها. والحقيقة أن الدستور التوافقي لعام 2014، كرّس صيغةً وُسطى بين الاتجاهين، حين أبقى على مجموعة من الصلاحيات للرئيس، التي غالبا ما نجدها في الدساتير الديمقراطية، وفي الوقت ذاته ربطها بشروط وآليات، هي بمثابة كوابح، أو «فرامل»، لا يستطيع ممارستَها دون احترامها والتقيد بها. فهكذا، يتولى الرئيس، بمقتضى الدستور، الوظائف السيادية الاستراتيجية ذات الصلة بقيادة الدولة وتمثيلها، والمحافظة على استمرارها، ورعاية احترام الدستور والمؤسسات وحسن سيرها. وبذلك، يتمتع بصلاحيات دستورية واضحة، في مجالات الدفاع، والسياسة الخارجية، والأمن القومي، كما يتولى اختصاصات حُيال السلطة التشريعية، وفي علاقته بالحكومة، ومن يقرأ الفصول الثمانية عشر )ف/72 – 88( من الدستور، وتحديدا الواردة بين 77 و82، سيلاحظ أن مؤسسة الرئاسة محاطةٌ بكثير من القيود التي اعتمدها المشرع الدستوري على سبيل الاحتراز، كي لا يتقوى الرئيس على المؤسسات الدستورية المجاورة له، أي البرلمان والحكومة. فعلى سبيل المثال تضمن الفصلان 77 و 78 ثلاثة عشر اختصاصا استراتيجيا، ذات علاقة عميقة بالموقع السيادي لرئيس الجمهورية، أخضعها المُشرّع، إما لقيد استشارة رئيس الحكومة، أو لموافقة مجلس النواب، وفق الأغلبية المطلوبة، أو لتنظيم القانون نفسه، وهو ما يعني أن دائرة تحرك الرئيس والإقدام على المبادرات الشخصية، تظل مرتهنة، على صعيد التنفيذ والممارسة، باحترام الشرعية الدستورية، أي التقيد بأحكام الدستور ومقتضياته. لهذه الاعتبارات، يُفهم لماذا استبعد الكثيرون، لاسيما من داخل حزب نداء تونس، فرضيةَ تَغوُّل السلطة في حالة ما إذا فاز زعيمهم «باجي القايد السبسي» في الاقتراع الرئاسي. لكن إذا نحن ربطنا التأسيس الدستوري لمكانة الرئيس بمعطيات الواقع السياسي التونسي، وتساءلنا عن المكانة المرتقبة لهذه المؤسسة عند الإعلان عن الفائز في انتخاب 23 نونبر الجاري، سيكون جوابُنا الأولي أن تونس في حاجة إلى رئيس بمواصفات خاصة، أبرزها أن يكون رصيده التاريخي والسياسي )الكاريزما( يسمح له بأداء دور القيادة باقتدار وفعالية، لا رئيس تتقاذفه التجاذبات السياسية، وتَحُولُ كفاءتُه المحدودة دون إنجاح تجربة التحالف المنتظرِ إقامتها بين الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة وغيره من القوى السياسية. ثمة ما بين أربعة إلى سبعة أسماء بارزة في قائمة الترشيحات الرئاسية، هي تحديدا «باجي القايد السبسي» عن نداء تونس، و»محمد المنصف المرزوقي» عن حزب المؤتمر، ومصطفى بن جعفر عن «التكتل»، و»نجيب الشابي»، عن الحزب الجمهوري، وحمّة الهمامي عن ائتلاف الجبهة الشعبية. ويمكن أن نضيف إلى هذه الكوكبة بصفة احتياطية كلا من «سليم الرياحي»، ممثلا لعالم الاقتصاد والأعمال، و»محمد الهاشمي الحامدي» عن تيار المحبة. هؤلاء هم الذين سيرسمون نتائج رئاسيات الثالث والعشرين من هذا الشهر، ومن المنطقي جدا أن المفاوضات التي جرت وتجري بكثافة لتحديد اتجاه التصويت، تحكمها رؤية شاملة، تطال تشكيل الحكومة والرئيس المرتقبين، والعمل المشترك داخل البرلمان، والبرنامج الحكومي المقبل، وأساسيات العمل الذي سيحكُم القوى المشكِّلة للائتلاف، أي باختصار «رزنامة» المرحلة المقبلة. لذلك، نقدر أن أي انزلاق أو سوء تقدير لحساسية واستراتيجية ما حَكمَ مفاوضات الرئاسيات، وما سيعقب مرحلة ما بعد الرئاسيات، سيكون له بالغ الأثر على آفاق تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. [email protected]