«يجبُ الذي يجبُ.. في كل مِئذنةٍ حاوٍ.. ومغتصبُ يدعو لأندلسٍ إن حوصرتْ حلبُ». هل كان محمود درويش يعي عندما كتب هذه الأبيات أنه لم يكن يكتب إستعارة، بل كان يصف ما ستؤول إليه أحوالنا في القرن الحادي والعشرين؟ الإستعارة في الشعر لحظة باهرة، خصوصاً حين تفاجئ في قدرتها على تحويل الخيال إلى صورة مقمّطة بغموض الاحتمالات. فحين يكتب السياب: «عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السَحَرْ»، أو حين نقرأ المتنبي: «كأنكَ في جفنِ الردى وهو نائمُ»، أو حين يشطح أبوتمام ليقول: «تاهتْ على صورةِ الأشياءِ صورتُه/ حتى إذا كمُلَتْ تاهتْ على التيهِ»، أو حين نقرأ كيف «سقط الحصان عن القصيدة» كما كتب درويش، فإننا نُصاب بطرب إيقاع المعاني التي تأخذنا إلى آفاق بلا حدود. نقرأ الاستعارة بصفتها حقيقة الحقيقة، أي صورة للمعاني المضمرة في المعنى، تحرر الواقع من واقعيته، وتأخذنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم البعد الروحي للشعر، وهو بعدٌ لا علاقة له بالأديان، لأنه بعدٌ إنساني محض. أما حين تتحوّل الاستعارة إلى حقيقة جافة، فإنها تصير رعباً مطلقاً ومجموعة من الكوابيس المتلاحقة(…) أعود إلى الاستعارة الدرويشية التي بدأتُ بها لأنها حمّالة أوجه، إذ نستطيع أن نقرأها في سياقها التاريخي لنقول أن شاعر فلسطين الكبير كان يصف بواقعية الوضع العربي في السبعينيات. استعار درويش صوت الشاعر، بحسب الوصف الذي أطلقه المعري على المتنبي، وأقام «على قلقٍ كأن الريح تحتي/ أسيّرُها يميناً أو شمالا»، ليهجو أنظمة الاستبداد العربي، في صورة المئذنة التي يعتليها لصوص السلطة من أجل تناسي الموضوع. فالموضوع هو الحاضر المحاصَر الذي يتم تغطيته بالحنين الأندلسي البائس. كان درويش يقصد فلسطين حين تكلم عن حلب، وكان يعني الكذب عندما أشار الى الأندلس. ففلسطين ليست الأندلس، إنها حلب سيف الدولة المحاصرة بالروم على الجانبين: «وسوى الرومِ خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أيِّ جانبيكَ تميلُ». في السبعينيات لم يكن لصوص السلطة يعتلون المآذن، كانوا قوميين وعلمانيين أو هذا ما ادعّوه لأنفسهم، وكان مشروعهم الفعلي هو «بعث» شكل حديث من أشكال الحكم المملوكي. فأقاموا الجمالك أو الجمهوريات الوراثية، وقمعوا ونهبوا بلا حدود(…) لم يدُر في خلد الشاعر أن الأيام الآتية على العرب سوف تقوم بتدمير الاستعارة محوّلة إياها إلى واقع سياسي يمتد من العراق وسوريا ولبنان إلى ليبيا واليمن ... والحق يُقال أن الإسرائيليين سبقوا الجميع إلى شرب هذه الكأس، فقد قاموا بتحويل الأسطورة الدينية التوراتية إلى تاريخ وواقع سياسي، مجردين الدين من أبعاده الروحية وقيمه الإنسانية، ومحولين الإيمان إلى وصفة للهمجية. وهذه مسألة تحتاج إلى مناقشة خاصة، ليس مكانها هنا. نعود إلى الاستعارة الدرويشية التي صارت واقعاً، ننظر إلى ما يجري بعين العقل فنرى الآتي: الخليفة البغدادي يقاتل في كوباني والأنبار ويشرف على القتل من مئذنة جامع نور الدين زنكي في الموصل، الرقة مستباحة بالكامل، أما في لبنان فلم تكتف «النصرة» و»داعش» في عرسال، بل أعلنت القتال في طرابلس الشام وفي عكار في شمال لبنان، حزب المقاومة الإسلامية يقاتل في القلمون، الديكتاتور السوري يقاتل في ريف حماه، هذا من دون أن ننسى بنغازي وسيناء والحرب الزيدية- الشافعية في اليمن(…) القدس محاصرة بالقمع والإرهاب والاستيطان، أطفال المدينة يُقتلون، المسجد الأقصى في خطر حقيقي وداهم، والدم في شوارع المدينة العتيقة. الطفل السوري الذي لطّخه وحل المطر في أحد مخيمات النازحين العشوائية في لبنان، هو توأم الطفل الفلسطيني الذي قتله رصاص الغزاة في القدس. يا إلهي، هل صار علينا أن نكره استعارة المطر السيّابية لأنها تلطّخ وجوه الأطفال السوريين اللاجئين بالوحل والمذلة؟ أم صار علينا أن نرفض استعارتنا للأندلس، لأنها صارت وسيلة القتلة لحرف أنظارنا عن فلسطين والاستمرار في قتلنا؟ هل نجح السفهاء منّا في «بعث» انحطاطنا وحده؟ أم ماذا؟.