بعد تردد دام أسبوعا كاملا، قررت النيابة العامة ووراءها وزارة العدل ووراء وزارة العدل جهات في السلطة... قرر هؤلاء جميعا متابعة الزميل علي أنوزلا أمام القضاء بثلاث تهم ثقيلة، وكلها تنتمي إلى قانون الإرهاب وهي: تقديم المساعدة عمدا لمن يرتكب أفعالا إرهابية، وتقديم أدوات لتنفيذ جريمة إرهابية، والإشادة بأفعال تكون جريمة إرهابية. كنت أعتقد أن المهلة الطويلة نسبيا التي أخذتها السلطة للتفكير في ملف علي أنوزلا، الذي صار ملفا ثقيلا منذ مدة ليست قليلة، ستقود إلى انتصار المقاربة الناعمة على المقاربة المتشددة، أو لنقل المقاربة الحقوقية والقانونية على المقاربة السياسية والأمنية... لكن جرت الأمور بطريقة أخرى، وتصادف أن المتابعة الجديدة لصحافي مشاغب تتم في أجواء الاحتفالات النهائية بزوال الربيع العربي، وعودة المغرب، وعموم البلاد العربية، إلى الخريف المعتاد. لو كنت مكان قاضي التحقيق الذي سيعرض عليه الملف معززا برأي النيابة العامة، التي تطرفت إلى أبعد حد، وذهبت بسهولة وخفة إلى قانون استثنائي، وضع في ظروف استثنائية لمجابهة أحداث استثنائية، لقطع رأس صحافي. لو كنت مكان قاضي التحقيق لوضعت جانبا قانون الإرهاب، وأحلت الصحافي في حالة سراح على القاعة الثامنة في محكمة عين السبع المكلفة بالنظر في قضايا الصحافة والنشر، ولكتبت في التعليل: «إن المتهم ينفي مطلقا المنسوب إليه، وإنه متشبث بتفسير واسع لمهنته كصحافي أراد إخبار جمهوره بالشريط المنسوب إلى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، دون أن تكون في نيته الإشادة بالإرهاب، ودون أن تتوفر للمحكمة دلائل قاطعة على خلاف هذا، فنشر رابط لفيديو القاعدة على موقع «لكم» لم يكن مصاحبا بالإشادة، كما تبين للمحكمة أن التقديم الذي كتب للفيديو من قبل هيئة تحرير الموقع كان تقديما محايدا، بل إن صاحبه نعت مادة الشريط بالدعائية، ووصف قتلى الإرهاب في 16 ماي بالضحايا، وهذا معجم لا يستعمله من يريد أن يروج الإرهاب في بلاده أو بلاد الغير. ثانيا: إن الموقع لم يقدم أدوات لتنفيذ الجريمة يمكن التعرف عليها والوقوف عندها، ثم إن القانون الجنائي، وقانون الإرهاب خاصة، يجب أن يفسر على أضيق نطاق، ولا يجب التوسع في تأويله، وإلا فإن أفعالا كثيرة ستصبح مجرمة، فالشريط كان موجودا على النيت وعلى شبكات التواصل الاجتماعي قبل أن ينشره موقع «لكم»، الذي لا تزوره إلا النخبة التي لا يستطيع معتوه جزائري أن يؤثر فيها، والدليل أن أحدا من الأحزاب والجمعيات والمنظمات والمثقفين لم يلتفت إلى الشريط قبل اعتقال أنوزلا. موقع «لكم» ليس المصدر الأول للأخبار في المغرب». هل أنا أحلم؟ ربما، لكن ما أضيق العيش لولا فسحة الحلم. على النيابة العامة أن تثبت أن الصحافي علي أنوزلا الذي اشتغل لأكثر من ربع قرن في الصحافة العربية والمغربية، كان على علاقة بتنظيم القاعدة، وأنه كان ينسق مع عبد المالك درودكال في مكان ما في جبال وأحراش الجزائر قبل نشر الشريط، وأنه ملحق صحافي لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهذا ما لا يتصوره الأحمق والعاقل على السواء. متى ينتهي عمل الصحافي في إخبار الجمهور بما يقع؟ ومتى يبدأ ترويج الإرهاب أو العنف أو القتل؟ هذا موضوع معقد وليس موضوعا سهلا ولا بسيطا، كما يتصور العقل الجنائي المحافظ في وزارة العدل. لا يكفي نشر شريط إرهابي في موقع خط تحريره معروف بالبعد عن نهج القاعدة وتفكيرها، لاتهام صاحب الموقع بالتهم الثقيلة التي وجهت إلى الزميل أنوزلا... يحتاج الأمر إلى دلائل وحجج لا يرقى إليها الشك. في إسبانيا وبريطانيا وأمريكا هناك من كان ينشر أشرطة «إيطا»، وهناك من كان يمتنع عن ذلك، وهناك من كان ينشر أخبار الجيش الجمهوري، وهناك من كان يمتنع عن ذلك، وهناك من كان ينشر أشرطة أسامة بن لادن، وهناك من كان يعزف عن ذلك، وكان هناك من يتهم من يقفون وراء نشر أخبار الإرهابي، بأنهم يقدمون له خدمة مجانية دون قصد. لكن أحدا لم يقدم الصحافيين إلى المحاكم بتهمة الإرهاب. هذا نقاش مهني بين أبناء الصحافة وليس اختصاصا معقودا لمحاكم الإرهاب... لهذا تدخلت «هيومن رايتس ووتش» و«أمنيستي» ومنظمة «صحافيون بلا حدود»، وغيرها من المنظمات الحقوقية الوطنية التي استنكرت متابعة صحافي بقانون الإرهاب، وهو ما عابها عليه مصطفى الخلفي الذي نسي أنه لم يعد كاتبا في جريدة التجديد، وأنه صار وزيرا لا يحق له الكلام في ملف معروض أمام القضاء. علي أنوزلا يتابع على ما لم يرتكبه من جرائم، لأن ما ارتكبه من نقد حاد للسلطة ورموزها لا يصلح في هذا الظرف لمتابعته أمام القضاء من أجله. دولة القانون، أيها السادة، لا تسمح بمعاقبة شخص على «جريمة» لم يرتكبها، لأن هناك تهما أخرى لا نريد أن نحركها في حقه، وكأننا نقول له: هذه بتلك. لا يوجد نظام مقاصة في القانون الجنائي، إما أن يحاسب المرء على ما اقترفته يده أو يطلق سراحه... لا حلول وسطى.. رجال القضاء يعرفون هذا ويعرفون أكثر، لكنهم عندما يرون وزير العدل والحريات، وهو المحامي الكبير والحقوقي الذي كان شوكة في حلق كثيرين، يدفع إليهم بهذا الملف الحارق فإنهم يقولون في قرارة أنفسهم: «وماذا يفعل الميت أمام غساله.. فوق طاقته المرء لا يلام». لو سمع ملك البلاد في 2003 نصيحة صقور المخزن وبعض إرشادات محمد اليازغي لكان حزب العدالة والتنمية الحاكم قد حُل بمقتضى قانون الإرهاب، لأن أصواتا كثيرة خرجت تقول إن المصباح هو من قدم الشرارة الأولى لحريق الجمعة السوداء في 16 ماي. عندها خرجت أصوات قليلة، منها صوت علي أنوزلا، تقول: «اللهم إن هذا منكر، حزب العثماني بريء من دم يوسف». الآن عدد من رموز هذا الحزب يدفعون بعلي إلى البئر عل قانون الإرهاب يلتقطه...