ليحددا أسباب وفاتها وفشلها في القيام بالمهام التي أنشئت من أجلها. ومن خلال الكتاب، ترتسم ملامح حزب علي يعتة، ابتداء من الحزب الشيوعي المغربي وانتهاء بحزب التقدم الاشتراكية الذي يتحالف مع الإسلاميين في الحكومة الحالية. نفى عضوا المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، أحمد زكي وأحمد سالم لطافي، خلال تقديم كتابهما «الحركة الوطنية، الكتلة واليسار، وقائع للتاريخ» بالدارالبيضاء أول أمس، أن يكون مؤلَّفُهما جاء بإيعاز من قيادة حزبهما، بل شددا على أنه «بلا شك، لو تمت استشارتهم لرفضوا إخراج الكتاب، لأنهم يفضلون أن يظل النقاش الذي يهم «الحلفاء» داخليا». ومع ذلك، يبقى هذا الكتاب، من بدايته إلى نهايته، منتصرا للحزب الذي ينتمي إليه المؤلفان، وربما تختزله القولة، المنشورة في صفحته الثالثة، للأمين العام السابق لحزب «الكتاب»، إسماعيل العلوي، التي يذكر فيها أن «هاجس الوحدة في العمل السياسي ظل ملازما للحزب منذ نشأته، مما جعل العديد يعتبرونه مؤسس الثقافة الوحدوية في بلادنا بامتياز». وقد بدا واضحا غياب نقد ذاتي للحزب، الذي يحتفل في هذه الأيام بعيد ميلاده السبعين، والذي ينتمي إليه المؤلفان، فيما حضر تحميل مسؤولية موت «الكتلة الديمقراطية» لقطبي حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وإن كان هذا الأخير نال نصيب الأسد من تحميل ذلك «الوزر».
«الجبهة الوطنية» بدون الحزب الشيوعي يبدأ الكتاب ب«التأريخ» للحزب الشيوعي الذي ظهر خلال فترة الحماية، وحصل على الصفة القانونية وعقد ندوته الوطنية في 14 نونبر 1943، والذي سيتطور إلى حزب التقدم والاشتراكية. واللافت أن المؤلفين، في إحالة على الراحل عبدالله العياشي، أكدا على أنه «على الرغم من كون الشيوعيين بالمغرب (وليس الشيوعيين المغاربة) لم يكن همهم الأساس المطالبة بالاستقلال، بل كانت همومهم اجتماعية واقتصادية كعمال ومهنيين وفلاحين فقراء، حاولوا منذ البداية إدماج الشغيلة المغربية في هذه الحركة التي كانت سياسية ونقابية رغم المعارضة القوية للسلطة الاستعمارية». ومنذ هذا التاريخ، يؤكد المؤلفان، ظهر النزوع الوحدوي للشيوعيين بالمغرب، (وليس الشيوعيين المغاربة، لأن هؤلاء كانوا في الواقع أقلية داخل الحزب الشيوعي المغربي)، حيث كان للحزب «موقف وطني شجاع في التعامل مع التحالف الذي أفضى إلى تأسيس الحزب الوطني والذي تحول إلى حزب الاستقلال»، ثم طالبت وثيقة للحزب ذاته، صادرة في 4 غشت 1946، باقتراح إنشاء «الجبهة الوطنية المغربية» التي تضم «حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال والشيوعيين والنقابيين والاشتراكين وكل المغاربة التقدميين، ثم إلى هؤلاء ينضم الأوربيين الذين يعيشون في المغرب من لهم شغف الحرية» وطبعا، لم تتم الاستجابة إلى دعوة الشيوعيين، لكن المثير في سخرية التاريخ أن «الجبهة الوطنية» تأسست سنة 1951، من أطراف أحزاب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال وحزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية، واستُثني منها الحزب الشيوعي المغربي «لأسباب إيديولوجية تكتيكية». بعد هذه الفترة بقليل، وتحديدا بعد أحداث الدارالبيضاء خلال دجنبر 1952، التي اندلعت إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد تم منع الحزب الشيوعي وحزب الاستقلال، من طرف الإقامة العامة ل«مسؤوليتهما» في الأحداث.
«الهلال الأسود».. ذراع الشيوعيين بعد هذه الفترة ستنطلق المقاومة بعد نفي السلطان محمد بن يوسف، حيث تأسست إلى جانب «المنظمة السرية» التابعة لحزب الاستقلال، منظمة «الهلال الأسود» في «إطار عمل وحدوي دون أي محاولة سياسية للهيمنة الحزبية»، في مارس 1954، بعد عقد الحزب الشيوعي اتصالات مع جماعات كان من أعضائها عبد الله الحداوي، والطيب البقالي ومصطفى يعتة وعبد السلام يعتة (صهر علي يعتة وشقيقاه على التوالي)، ولم يكن هؤلاء أعضاء في الحزب، بل كان من بينهم شوريون… لكن انضم إلى المنظمة عضو الديوان السياسي للحزب عبدالكريم بنعبد الله، الذي تم اغتياله سنة 1956، من طرف «المنظمة السرية» إلى جانب الحداوي والبقالي وأحمد السطي ومحمد لفضالي وهما مناضلان شيوعيان في كل من البيضاء والمحمدية، إلى جانب العربي سامي… استمر هذا المسلسل الدامي إلى أن تم لقاء بين الأمين العام للحزب الشيوعي علي يعتة والهادي مسواك بالقيادي الاستقلالي والوزير عبد الرحيم بوعبيد، لكن الصراع انتقل هذه المرة إلى داخل حزب الاستقلال حيث سيشطر إلى حزبين متصارعين بعد تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من طرف قيادات من قبيل عبد الله إبراهيم (الذي كان يرأس الحكومة آنذاك) وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة.
المنع.. «نحن السابقون وأنتم اللاحقون» بعد منع علي يعتة من دخول المغرب، تمت المصادقة على منع حزبه سنة 1960، «بمباركة» رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم، وهو ما نبه إلى خطورته عبد الله العياشي، حسب المؤلفين، حين خاطب بن بركة في لقاء ثنائي بينهما، كتعبير عن يقينه بأن تصفية الحزب الشيوعي ستمهد لتصفية الحساب مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومع حزب الاستقلال قائلا له «نحن السابقون وأنتم اللاحقون». وفعلا، تم استغلال الصراع بين الاستقلاليين القدامى والمنشقين عنهم، وانشقاق نقابة الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني لطلبة المغرب من طرف عناصر استقلالية، وتمت إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، لتحل محلها حكومة استقلالية استعملها الحكم «للدفاع عن الدستور «الممنوح» سنة 1962، ليستغني عنها مباشرة بعد الاستفتاء المغشوش»، يقول مؤلفا الكتاب. وخلال عشرية الستينات من القرن الماضي، هيمن الصراع السياسي بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية، وانطبعت بانتخابات 1963، التي «عرفت أبشع أنواع التزوير وشراء الأصوات» لضمان حصول أغلبية موالية يتزعمها أحمد رضا گديرة وتنظيمه الجديد «الفديك» (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية).
إجهاض الاندماج في «الاتحاد» وفي سياق الانتفاضة الشعبية لمارس 1965، حيث قوبلت الاحتجاجات بالدارالبيضاء برد فعل عنيف أدى إلى مقتل مئات القتلى واعتقالات واختطافات وتعذيب ممنهج كان بطلها وزير الداخلية الجنرال محمد أوفقير، وإجراء اتصالات مع قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لإشراكه في الحكومة (لكن كل ذلك تم إجهاضه باختطاف المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965)، عاد الحزب الشيوعي (الممنوع) إلى نزعته الوحدوية حيث اقترح في 26 يونيو من السنة نفسها على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاندماج الكلي في حزب يساري موحد، ليتجاهله الاتحاد متعاملا بروح «الهيمنة» ومستعملا تبريرات، وصفها الكاتبان ب«الشكلية»، من قبيل أن الحزب الشيوعي ممنوع. وفي سنة 1966، عقد الشيوعيون مؤتمرهم الثالث بالبيضاء في سرية تامة وطالبوا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيام «جبهة موحدة لكل القوى الوطنية والتقدمية والثورية»، والملاحظ هو أن حزب الاستقلال لم يكن يعارض الفكرة في هذه الفترة.
«الكتلة الوطنية» وإقصاء الشيوعيين في سياق هذه الفترة التي طبعها الصراع السياسي، وعرفت حالة الاستثناء، اتخذت قيادة الشيوعيين قرارا تجاوز المنع يوم 6 يونيو 1968 تحت يافطة جديدة «حزب التحرر والاشتراكية»، لكن بعد سنة واحدة تم منع هذا الحزب واعتقل بين سنتي 1969 و1970 مناضلون من بينهم علي يعتة، محمد شعيب الريفي، عبد المجيد الديوب وأحمد بيوض.. في هذه الفترة تم ميلاد «الكتلة الوطنية» كتحالف ثنائي بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، مستثنيا حزب التحرر والاشتراكية، وهي الفترة التي عرفت دستور 1970، الذي وضع دون استشارة القوى الحية في البلاد، ثم المحاولتان الانقلابيتان العسكريتان لسنتي 1971 و1972، ليتبين أن «الحركة الوطنية ليست هي التي تهدد الملكية»، كما يستنتج المؤلفان. في هذه الفترة سيصدر علي يعتة كتابا حول «الصحراء الغربية المغربية»، لكنه منع رغم أنه مع الوحدة الترابية للبلاد… بعد الانقلابين عرفت البلاد بعض الانفراج، فأصدر الحزب الممنوع جريدة «البيان» بعد منع «الكفاح الوطني» و«المكافح»، وعاد الحزب نفسه إلى الشرعية مرة أخرى، باسم جديد هو «حزب التقدم والاشتراكية» وعاد ليدعو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي تأسس على أنقاض الاتحاد الوطني، وأيضا حزب الاستقلال إلى الجبهة الموحدة، لكن الحزب الثاني قرر في 1977 الانضمام إلى حكومة أحمد عصمان الذي أسس التجمع الوطني للأحرار، وهي الحكومة التي فشلت في تحسين أوضاع البلاد التي سنفجر فيها أحداث 1981، حيث سقط مئات القتلى والجرحى واعتقالات تذكر بأحداث مارس 1965. في الفترة الموالية سينجح صندوق النقد الدولي في 1983 من فرض سياسة التقويم الهيكلي على البلاد التي عرفت في السنة الموالية «تزويرا مفضوحا لفرض حزب أغلبي جديد سينشئه الوزير الأول المعطي بوعبيد شهورا من قبل وهو الاتحاد الدستوري»، ومن جديد يلتحق حزب الاستقلال بالمعارضة، إلى جانب الاتحاد الاشتراكي والتقدم الاشتراكية، فعاد الثلاثة إلى «التفاعل الإيجابي وتدريجيا إلى التنسيق»، وهو المسار الذي تمخض عنه ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة سنة 1990، يليه سنة 1992 تأسيس «الكتلة الديمقراطية» وتقديم مذكرة الإصلاحات الدستورية والسياسية.
صراع داخل «الكتلة الديمقراطية» بعد تقارب بين مكونات الكتلة وفرض ذاتها على النظام كتحالف متين، تقدم الحسن الثاني بعرض أول لها للمشاركة في حكومة يترأسها أحد قيادييها مع الاحتفاظ ببعض وزارات السيادة، وهو ما سيؤدي إلى رفض الأمين العام لحزب الاستقلال امحمد بوسنة الذي كان مرشحا للوزارة الأولى للعرض لتمسكه باستبعاد إدريس البصري، وجاءت انتخابات 1993 التي ستضع الاتحاد الاشتراكي في المقدمة، وفشلت المحاولة الثانية لتشكيل حكومة الكتلة بقيادة محمد اليازغي. على إثر هذه الوقائع، سيعلن الحسن الثاني نهاية عرضه للسير في هذا الاتجاه، قبل أن يتم تعديل الدستور وهو ما سيفتح الباب لاحقا لتشكيل حكومة التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، رغم أن المسلسل واكبه إخفاق الكتلة في الترشيح الموحد لانتخابات 1997 وهو ما فوت عليها، في نظر المؤلفين، الفوز بأغلبية أعضاء مجلس النواب.
نهاية «الكتلة» ومسؤولية «الاستقلال» و«الاتحاد» يكشف المؤلفان بعض كواليس تشكيل حكومة التناوب، حيث أكدا أن اليوسفي لم يضع قيادات الكتلة في صلب المشاورات وكواليس تشكيل حكومته، حيث اعتكف في بيت صديقه أحمد لحليمي، كما كشفا أن رفض أمينة لمريني للإستوزار، جعل محمد سعيد السعدي يخلفها، كما كشفا كيف ناور عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال، من أجل دخول حكومة اليوسفي الثانية (في عهد الملك محمد السادس) التي يقول المؤلفان إن حزبهما استهدف فيه، بحيث أبعد السعدي ونقل أمينه العام إسماعيل العلوي من وزارة التربية الوطنية إلى وزارة الفلاحة «في الوقت الذي كان قد أعد برنامج عمل طموح لإصلاح التعليم، استحسنه جل العاملين في القطاع موازاتا مع انطلاق العمل بالميثاق الوطني للتربية والتكوين»، كما جاء في الكتاب. من جانب آخر، ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقررة في صيف 2002، بدأت بوادر صراع بين «الاستقلال» و«الاتحاد»، فقد أخذ هذا الأخير في مغازلة «الأحرار». وبعد الانتخابات تصدر الاتحاديون المشهد، لكن بفارق ضئيل على الاستقلاليين، فكان مطلب هؤلاء في افتتاحية «العلم» التي تحمل عنوانا دالا «أمولا نوبا»، وهو الخلاف الذي سيحسمه الملك محمد السادس بتعيين إدريس جطو وزيرا أولا، لتتوالى الأحداث بعد «عدم احترام المنهجية الديمقراطية»، وشيئا فشيئا، برزت الصراعات بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، خصوصا لما أفشل الاتحادي خالد اعليوة فوز الاستقلالي كريم غلاب برئاسة مجلس مدينة الدارالبيضاء. وبعد تعيين عباس الفاسي وزيرا أول، شارك الاتحاديون في حكومته وإن مارسوا ما سموه ب«المساندة النقدية»، فيما احتج حزب التقدم والاشتراكية على تدخل فؤاد عالي الهمة، مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة في تشكيل حكومة الفاسي، وضمان الأغلبية لها، ليبرز الخلاف أكثر مع التراجع عن تقديم مذكرة الإصلاحات الدستورية من طرف الكتلة، قبل أن يفاجئها «الربيع العربي» ويتم تعديل الدستور بتقديم كل حزب مذكرة مطالبه منفردا، ثم ليتوج هذا الانفصال والموت المعلن ل«الكتلة» برفض «الاتحاد» دخول حكومة عبدالإله بنكيران، عكس حزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية، قبل أن يلتحق الاستقلاليون تحت القيادة الجديدة لحميد شباط بالاتحاديين في المعارضة.