من أجل لقائه يجب الخروج من العاصمة «مونتفديو» والتوغل داخل الضاحية القروية حيث ترعى بعض الأبقار السمينة، ثم مغادرة الطريق المعبدة والانخراط في مسلك ترابي يحرسه شرطيان يبدوان تائهين قبل أن تجد نفسك أمام مسكن متواضع هو عبارة عن جدران مرقعة بيضاء وسقف من الزنك موضوع داخل حديقة مهملة. يفتح صاحب المسكن الباب مرتديا كنزة صوفية فوقها بدلة رياضية، ويلقي تحية مقتضبة بحركة من رأسه. ليس هدا الرجل ذا الأسلوب البسيط في العيش والذي يمكن أن تحسبه بكل سهولة واحدا من السكان القرويين، سوى رئيس جمهورية لأوروغواي. ويجذب خوسي موخيكا(78سنة)، رئيس هذه الدولة الصغيرة التي تضم 4،3 مليون نسمة وتوجد بين العملاقين البرازيلي والأرجنتيني، أنظار العالم اليوم ببساطته وبإصلاحاته التي تثير الكثير من الجدل في أمريكا اللاتينية. يلقبونه ب»أفقر رئيس في العالم»، فقد تخلى عن القصر الرئاسي «سواريز يريس» وعن ثلاثة أرباع راتبه الرئاسي لفائدة جمعيات المساعدة على السكن. ولا يبدو أن إباحة الإجهاض والزواج المثلي، وهما من الطابوهات في هذه المنطقة، يكفيانه. فبدأ يفكر في تأميم إنتاج مخدر القنب الهندي، وهذا الأمر يعتبر قنبلة صغيرة داخل منطقة مهووسة بمكافحة تجارة المخدرات. يرد «خوسي موخيكا» بنظرة ساخرة من تحت حاجبين كثيفين:»لست أنا هو الغريب، بل إن الغريب هم السياسيون الآخرون الذين يشبه أغلبهم التماثيل». ولا يهتم خوسي موخيكا، ببطنه البارزة وشعر الأشعث، ولا بأي من الشكليات والمظاهر. فهو يستقبل زواره في غرفة استقبال تضم مائدة خشبية صغيرة يوجد حولها كرسيان ومدفئة سوداء وثلاثة ورود مزهرة. وغير بعيد عنه تقوم «السيدة الأولى» في البلاد وعضو مجلس الشيوخ، «لوسيا طوبولنسكي، بأشغال منزلية بسيطة بدون مساحيق.
غيفارا في غرفة الاستقبال ولكن ماذا يملك حقا رفقة زوجته من ثروة؟ هناك ضيعتان وسيارتان من نوع فولكسفاغن وثلاثة جرارات. وهذا يعتبر كثيرا شيئا ما بالنسبة إلى الرئيس الذي لا يتقاضى سوى ما يعادل ألف أورو شهريا (حوالي 12 ألف درهم فقط). «إن الحياة هشة في النهاية مثل الأشياء التي تطويها الرياح. وإذا كنت مشوشا ومنشغلا بما هو مادي، فلن يكون أمامك الوقت للقيام بما يروق لك وأن تكون ما تريد أن تكونه. وهذا هو الشيء الثمين. وهذه هي الحرية»، يقول خوسي هذه الكلمات وكأنه يغني الطانغو. كان «el pepe»، كما يطلق عليه الجميع في أوروغواي يمتهن بيع الورد، ويتحدث بلغة الفلاحين التي تغلب عليها الاستعارة. وهو لا يتوفر إلا على شهادة الباكلوريا ولكنه تمكن من أن يخلق لنفسه فلسفة. يستمد قراءاته المفضلة والمختارة من محتويات مكتبته الخاصة: دليل زراعة البصل ودون كيشوط ومجموعة شعرية لسينيك التي يحب أن يقتبس منها هذا التعبير البليغ «الفقير هو الذي يرغب في المزيد». لقد تمكن هذا الشيخ من بناء بساطته على امتداد تاريخ مضطرب. فهو ابن فلاحين فقيرين من أصول باسكية وإيطالية، فقد والده وعمره لا يتجاوز ستة سنوات. كان «خوسي ألبرتو موخيكا كوردانو» في الستينات أحد زعماء جماعة ثورية حضرية اسمها «توباماروس». كان هدفها القضاء على الفوارق الاجتماعية بالسلاح والاستيلاء على الحكم عن طريق عمليات التخريب والاختطاف. كانت الثورة الكوبية قد انفجرت مع الزعيم «تشي غيفارا»، الذي ما زالت صورته معلقة في غرفة الاستقبال. شارك «pepe « موخيكا الذي أصيب بست رصاصات في جسده في عملية فرار ال 110من السجناء، وهي عملية تم تسجيلها في كتاب «غينيس» للأرقام القياسية. وفي النهاية ألقي عليه القبض في سنة 1973 من طرف الدكتاتورية العسكرية الحاكمة حيث قضى ما مجموعه 14سنة سجنا من بينها سنتان في عمق بئر ! وتعرض للتعذيب وللتهجير بشكل منتظم، وكان يقتات من الحشرات وأصيب عدة مرات بنوبات الجنون، كما يحكي جاره في الزنزانة، الشاعر»موريسو روزنكوف» الذي ألف آنذاك كتاب أُطلق عليه «حوار مع حداء رياضي». لا يحبذ السيد الرئيس الحديث عن الفترة، «لم تكن بمثابة مخيم صيفي» يقول خوسي وهو يداعب كلبته الهجينة الصغيرة ذات الثلاث أرجل، ولكنه يستخلص منها بشكل إرادي درسا في الحياة بقوله «عندما لا نملك شيئا، نكتشف في ذواتنا طاقات كامنة. كلنا يعيش حالات إحباط وفشل ولكن بمقدورنا أن نعيد الكرة من جديد».
شريط وثائقي ل»كوستوريتشا» يعترف خوسي موخيكا بعد عودة الديمقراطية إلى البلاد في سنة1985 واستفادته من عفو بأن «الطريق الذي سلكنا لم يكن هو الأفضل»، ولكنه سيواصل ما يطلق عليه «النضال السياسي». هكذا أسس حزب «حركة المشاركة الشعبية» وانتخب نائبا في البرلمان في سنة 1994. كان يأتي إلى البرلمان راكبا دراجة نارية من نوع vespa، بحداء ملوث بالوحل. وحدث أن منع من ركن دراجته النارية أمام البرلمان. لم يتوقف موخيكا عن صعود سلم السلطة، إذ أصبح عضوا بمجلس الشيوخ ثم وزيرا للفلاحة قبل أن ينتخب رئيسا في 2010 تحت يافطة «الجبهة الموسعة»، وهي ائتلاف وسط – يسار. ليصبح بذلك الثائر الوحيد في أمريكا اللاتينية الذي تمكن من الفوز في انتخابات الشرعية إلى جانب السانديني «دنييل أورتيغا» في نيكاراغوا. لا يمكن تفسير صعوده السياسي بشخصيته الإنسانية فقط. فهو حسب تعليق الشاعر «غابرييل أيالا»، الثائر السابق الذي سبق أن اشتغل سكرتيرا لخوسي موخيكا عند ما كان في البرلمان، «تنقصه الثقافة الجامعية ولكنه عفوي ويستوعب جيدا كل ما يقال له. ويعرف كيف يستخدم صورته ويتوفر على قدرة هائلة للعمل». عند ما تولى الحكم، التزم الرئيس خوسي موخيكا باحترام النهج المعتدل للرئيس السابق»ناباري فاسكيز». ترأس حكومة تضم كاثوليكيين وشيوعيين مثل البرازيلي»لولا دا سلفا»، نموذجه في السياسة. كما انصاع المناضل اليساري المتطرف السابق لقواعد اقتصاد السوق، بقوله»لا يوجد المشكل في الرأسمالية لأني في حاجة إليها من أجل إعادة توزيع الثروة، ولكن المشكل يوجد في الاستهلاك المفرط الذي يستنزف الإنسان والكرة الأرضية». وقرر الزيادة في المساعدات الاجتماعية ولكنه أبقى على الباب مفتوحا للاستثمارات الأجنبية ولعب ورقة الأمن القانوني المستتب في هذا البلد الصغير الموجود داخل منطقة غير مستقرة، بل إنها تسمى «سويسراأمريكا اللاتينية» لكونه يحتفظ أيضا بالسر البنكي ولو بطريقة أقل مرونة. إذا كان» el pepe» يقوم بالثورة، فإنها تتم على واجهة قضايا المجتمع. ولكن ما هي المعركة الأخيرة لهذا اليساري السابق؟، «سنسرق من تجار المخدرات سوق مخدر القنب الهندي المدر للأموال الهائلة. وليس ذلك حبا في المتعة» يقول موخيكا، مؤكدا أنه «لم يسبق أن تناول المخدرات» ولكن «لأن السياسات القمعية المتبعة منذ 100سنة والتي كلفت غاليا، كانت فاشلة». واقترح أن تنتج الدولة وأن تبيع الماريخوانا في الصيدليات بنفس سعرها في الأسواق السوداء مع تحديد سقف لكل مواطن حتى يمكن علاج المدمنين. غير أن الرئيس ليس متأكدا من نتيجة هدا الإجراء الذي ينتظر أن تتم المصادقة عليه هذا الشهر من طرف مجلس الشيوخ بعد أن سبق للبرلمان أن صادق عليه. «ولكن باعتبارنا بلدا صغيرا، فمن واجبنا أن نحاول القيام بما لم تتجرأ دول أكثر قوة على القيام به» يقول خوسي، مؤكدا على التقاليد الإصلاحية الطويلة المعروفة عن بلاده. فالأوروغواي كانت من بين البلدان الأولى التي ألغت عقوبة الإعدام في 1907 وأعطت للنساء حق الطلاق في سنة1913 وحق التصويت في سنة1927. تنضاف هذه الإجراءات الرائدة إلى الدهشة التي يثيرها الرئيس. ففي السنة الماضية، ألقى خوسي خطابا في قمة «ريو زائد 20» حول التنمية المستدامة تجرأ فيه على الحديث عن السعادة وعن الصداقة، تابعه الآلاف من المتصفحين على الأنترنيت. وكان السينمائي الصربي «إيمير كوسترينتشا» قد خصص لهذا الرئيس الفريد شريطا وثائقيا. وعشية لقاء «لوفيغارو» به، وجهت له المجموعة الموسيقية للروك»إيروسميت» التي تقوم بجولة غنائية في مونتفديو، تحية خاصة ووصفته ب»الرئيس المثالي» الذي كان اسمه من بين الأسماء المتنافسة لنيل جائزة نوبل للسلام.
الشاعر العرضي تبقى صورة الرئيس في بلده مثيرة للجدل. فهو يتمتع بتأييد 50 بالمائة من السكان في استطلاعات الرأي وبخاصة داخل فئات المسنين والطبقات الشعبية. ولكن الترخيص بتداول مخدر القنب الهندي أثار القلق. غير أن رفاق الأمس يعتبرونه ليبراليا أكثر، فيما يشعر المحافظون بالغضب من أسلوب عمله الشعبوي ومن أخطائه اللغوية. فهو شاعر عرضي، لا يجد أي حرج في القسم بمسكنه خشية أن يقع مصيدة ميكروفون، من أجل وصف نظيرته الأرجنتينية «بالمنحرفة» أو «بالعجوز العنيدة». ويشتكي مساعدوه من غضبه وتتهمه المعارضة بالرئيس الذي يقول الشيء ونقيضه أو الرئيس الذي يطلق أفكار من الصعب تطبيقها. وتؤاخذه بشكل خاص على أنه لم يستفد من نمو متواصل بنسبة 6بالمائة في 2011 و4 بالمائة في 2013 من أجل الاستثمار في التربية والتعليم الذي يتدهور باستمرار أو محاولة محاربة تدهور الأمن في العاصمة مونتفديو والتي لم يسبق أن شهدت مثيلا له من قبل. ويقول كاتب سيرته «ميغيل أنجيل كامبودونيكو» باندهاش:»بإمكانه أن يقوم بأشياء تكلف أحزابا أخرى الكثير، ولكنه أصبح شخصا لا يمس وله نوع من السلطة الاخلاقية فوق الأحزاب». ويبدو أن»el pepe» غير مهتم بالانتقادات. فهو يقول وهو ينظر للبعيد:»في سنّي، ليس هناك شيء واحد يمكن للمرء أن يخشاه سوى الموت وأن لا تكون له قوة الحيوانات الصغيرة في الجبال». سيواصل بعد نهاية ولايته الرئاسية في سنة 2014 جولاته الصباحية مشيا في الطبيعة «التي تتكلم مع الذي يحسن الاستماع إليها»، وسيستأنف زراعة أزهار الأقحوان في أقصى حديقته، ومتابعة نمو»شجرة الخلود» التي كانت أول شجرة تزهر بعد قنبلة هيروشيما. بتصرف عن «لوفيغارو»