تقومُ دُنيا طائفةٍ من "الحداثيين" و"التنويريين" ولا تقعد إذا تحدَّث عالمُ الشرع في تخصصاتٍ علمية دقيقة، وقد يكون في بعض الحالات مُلمًّا بِها أو يمتلك الحدّ الأدنى من المعرفة بها! أمّا إذا تحدَّث باحث (أو صَحافيٌّ) أو غيرُهُ في تخصصاتٍ شرعية دقيقة وهو جاهلٌ بها ولا يمتلك الحدَّ الادنى من المعرفة بأسسها… فإنَّ مِن حقه ذلك، ولا يجوز أنْ يُقالَ له (وأتُوا البيوتَ من أبوابها) لأن في هذا -كما يرى- تعدِّيًا على حرية التفكير والتعبير! فعالِمُ الدّين مطالَبٌ بالفصل بين الدِّين والدنيا، أمّا غيره فيجوز لهُ الجمعُ بينهما؛ وإن لم يكن أهلا لذاكَ! لا يقتصر الأمر عند بعض الحداثيين في الجمع بين القول في الدين والقول في الدنيا، بل تجدهم في يَسخرون مِن الفقيه (أو الواعظ) إذا عَبّر عن رأيه في شأنٍ من شؤون الدنيا… ولا يَشفعُ له انْ يكونَ هذا الرّأيُ إحالةً أو نقلاً عن غيره من المتخصّصين في هذا الشأن؛ فهِيَ سُخريّةٌ بدعوى عدمِ "احترام التخصص"! لكنْ عندما "يُفتون" في الدِّين أو يُقدّمون رأيَهُم في الفقه وأصوله أو الحديث وعلومه…، فإنهم يرفضون دعوةَ مَن يُذكِّرُهم بضرورةِ "احترام التخصص!" يَرفضون هذا بدعوى "حرية التعبير" و"القيم الكونية"؛ لأن الدّينَ -في رأيهم- مِلكٌ للجميع، لكنَّ "الدُّنيا" مِلكٌ لهم فقط. وبهذا النَّهجِ يَجمعونَ بين الدّين والدّنيا… ويَدَّعون التمسكَ بالعلمانية. وفي جَمعهم بين الدين والدنيا تجدهم يتعاملون مع النصوص الدينية بمنطق أنساق فكرية لها نظامها الخاص بها وليس بمنطق الدين ونظامه الداخلي الخاص به. فالمنظومة الإسلامية -مثلا- لها منطقها ونسقها الخاص ولا يمكن العبث بأجزائها وقواعدها الكلية؛ ويأتي التوحيد في مقدمتها باعتباره رؤية للكون والحياة وليس باعتباره جزئية مجرّدة كما تقدمه بعض الجماعات. وهذا منطقٌ معروفٌ حتى في أشياء أخرى لا تربطها علاقة كبيرة بعالم الأفكار والتصورات؛ ففي عالم كرة القدم مثلا نجد أن لهذه الرياضة قواعدها الخاصة والكبرى التي تمنح لها هويتها الخاصة؛ فمن أراد الانخراط والمشاركة فيها وَجَبَ عليه الخضوع لقواعدها، ولا يمكن أن يقول لاعب كرة قدم إنه يرفض مثلا أن يلعب بدون قاعدة التسلسل أو رمية التماس... بدعوى أنه حر! يمكن لهذا اللاعب المتمرّد "العاشق للحرية" أن ينخرط أو يوجد لنفسه رياضة أخرى بإمكانها أن تستوعب أفكاره وقناعاته "التحررية"! وهذا أمر منطقي حتى في المذاهب الفلسفية والاتجاهات الفكرية؛ فلا يمكن مثلا لشخص أن يدّعي تبنيه للفكر الرأسمالي وهو ينكر اقتصاد السوق… ولا لآخَر أن يدّعي انتسابه للفكر الشيوعي وهو ينكر المادية الجدلية وصراع الطبقات… وهكذا. وأعتقد أن الدين الإسلامي ليست لديه مشكلة مع الأديان والمذاهب والمنظومات الكبرى (القَبول لا يعني الاتفاق)، إنما مشكلته الرئيسة مع من يعبث بنسقه فَيفقد بذلك معناه وهويته الخاصة؛ فالنسقُ هو الذي يمنحُ المعنى لأي منظومة.. والله أعلم.