فالعديد من الكتاب الغربيين يميلون إلى إرداف الدمقرطة والمواطنة بالوسط الحضري، فالحداثة السياسية تتولد بفعل الحركات الاحتجاجية "لسكان الحضر" ، حيث يدفعون في اتجاه علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، عبر تعزيز الشرعية الشعبية و الديمقراطية التمثيلية. بينما المعارضة بالأرياف تظل جد محدودة، والحركات الجماعية غير نشيطة، والنخب تدافع عن الامتيازات الزراعية، وحتى الحركات الاحتجاجية بالأرياف يصعب أن تكون مرتبطة بقضايا المجتمع ككل. فهل الصين استثناء عن هذا الخط العام؟ . فقد مثل الريف الصيني مركز اهتمام لدى مختلف السلالات التي حكمت الصين قبل انهيار الحكم الإمبراطوري في مطلع القرن العشرين، ولم يخرج عن هذه القاعدة الحزب الشيوعي الصيني، الذي تعهد منذ انطلاق شرارة حرب التحرير، بإقامة مجتمع أكثر مساواة وإزالة كل أشكال الطبقية. فبالأرياف حصلت الدولة الشيوعية على الشرعية السياسية منذ قيامها سنة 1949، كما أن الإصلاحات التي انخرطت فيها الصين منذ 1978 انطلقت شرارتها الأولى من الأرياف، فالإصلاحات الاقتصادية بدأت في البداية بتغيير الريف وليس بتشييد المصانع. إذ عمل الحزب الشيوعي على تبني إستراتيجية لتنمية الريف الصيني تقوم على دعامتين: الدعامة الأولى: تنفيذ إصلاح زراعي بهدف رفع الإنتاج الزراعي، وتحسين دخل سكان الريف، وذلك عن طريق خصخصة الإنتاج الزراعي. أما الدعامة الثانية : فهي التصنيع الريفي . و سأحاول في هذه المداخلة التركيز على الإصلاحات الزراعية التي تمت بعد 1978.
الريف الصيني عند انطلاق إصلاحات 1978 في عام 1978، كان عدد السكان الذين يعيشون في فقر مدقع حوالي 250 مليون، أي 30،7 ٪ من مجموع سكان الريف، وفقا لمعيار الفقر التي حددته الحكومة الصينية. أسباب كثيرة أدت إلى هذا العدد الكبير من الفقراء. احد الأسباب الرئيسية كان نظام التشغيل في مجال الزراعة الذي لا يتناسب مع احتياجات تطوير القوى المنتجة، ذلك أن الفلاحين افتقروا إلى الحماس للإنتاج. ولهذا السبب، فإصلاح نظام الاستغلال في المجال الزراعي شكل الطريقة الأمثل لتخفيف وطأة الفقر.
نوعية الإصلاحات الزراعية شهدت الزراعة الصينية بعد 1978عدة تغييرات: فقد تحولت من الرقابة الشديدة المفروضة من النظام المركزي إلى تفويض تسير الاستغلاليات الفلاحية للأجهزة المحلية. تم فيما بعد تم تفويت تدبير الضيعات الزراعية للأسر الريفية، فأصبح الإنتاج الزراعي يتجه أكثر نحو نظام يقوده بشكل متزايد نظام السوق، بدلا من أهداف وخطط الحكومة. فمابين 1979 و1982 تم الانتقال من نظام الكمونات إلى الاستغلال الفردي للضيعات الزراعية، حيث يتم إبرام عقد إيجار بين الأسر الزراعية والحكومة المحلية ، وخلال هذه الحقبة تمكنت نحو 180 مليون أسرة ريفية من استئجار استغلاليات فلاحية . واستجابة لهذا التغيير، فقد ارتفع الإنتاج الزراعي ، وارتفعت المداخيل في المناطق الريفية ، وتحسن أداء أسواق المنتجات الزراعية. فباستثناء الحبوب، فان إنتاج وتوزيع وتسويق المحاصيل والمنتجات الحيوانية، أصبحت بيد المزارعين ولم تعد بيد الأجهزة الحكومية.. فالإصلاحات التي بدأت في عام 1978 هي ، أولا وقبل كل شيء ، إصلاح نظام إدارة الأراضي الزراعية . حيث تم استبدال نظام الإدارة المحلية الجماعية/ الشعبية، بنظام المسؤولية التعاقدية للأسر المعيشية. هذا التغيير في نظام إدارة الأرض منح الفلاحين الحماس الحقيقي للعمل، ومكن من تحرير القوى المنتجة وتحسين الإنتاج . وفي غضون ذلك ، كثير من الإصلاحات الأخرى ، مثل التخفيف التدريجي من السيطرة على أسعار المنتجات الزراعية وتطوير مشاريع البلدات القرى، فتحت طرق جديدة لحل مشكلة الفقر في المناطق الريفية. بعد 1984- 1985 تم تقليص تدخل الدولة في تحديد أسعار المنتجات الزراعية. هذا القرار شجع على الإنتاج، فالإنتاج نما بسرعة وبلغ متوسط نمو (GDP)الفلاحي حوالي 53% خلال الفترة مابين 1979 و 1984. و في سنة 1984 مشاريع الكمونات والألوية تحولت لمشاريع البلدات والقرى، بينما الدور الإداري للكمونات أصبحت تمارسه وحدات إدارية بالبلديات والقرى. كما سمحت الحكومة بإنشاء مشاريع خاصة في المناطق الريفية، مع إمكانية العمل بهذه الأنشطة الصناعية والخدماتية.هذا بالموازاة مع تخفيف القيود المفروضة على حركة الهجرة من الريف إلى المدن . ويلاحظ في الفترة بين 1952-1957عندما كان المزارعون يتمتعون بملكية الأرض، أن إنتاجية العمل نمت ب 1.7% في السنة والإنتاجية الكلية للعوامل نمت بنحو 0.63% . بينما الفترة ما بين 1957 و 1978 انخفضت إنتاجية العمل بنحو 0.2 % في السنة، مع تدهور الإنتاجية الكلية للعوامل. أما المرحلة في ما بين 1978 و1987 فقد ارتفعت إنتاجية العمل بنحو %5 سنويا مع تبني سياسة التحرير وارتفاع أسعار المنتجات الزراعية كما أن .الإنتاجية الكلية للعوامل ارتفعت ب نحو 4.6 سنويا في الفترة من 1987-1994 بينما تقلصت إنتاجية اليد العاملة حيث نمت بنحو 3 سنويا.
عدوى التنمية الإصلاحات الزراعية المتعاقبة سرعت من تنمية الاقتصاد الوطني وعادت بالفائدة على الساكنة الريفية من ثلاث نواحي: رفع أسعار المنتجات الزراعية ، وتحويل هيكل الإنتاج الزراعي نحو القيمة المضافة الأعلى، وتوظيف العمال في المناطق الريفية في القطاعات غير الزراعية. ومن ثم تمكين العديد من المزارعين من التخلص من الفقر. ووفقا للإحصاءات الرسمية، ففي الفترة من 1978 إلى 1985 نصيب الفرد من الناتج من الحبوب شهد زيادة بنسبة 14 ٪ في الريف ، من جانب القطن 73،9 ٪ المحاصيل الزيتية 176،4 ٪، واللحوم بنحو 87،8 ٪ والدخل الصافي لكل فلاح تضاعف بحوالي 3،6 مرات . عدد الفقراء غير القادرين على إطعام وكساء أنفسهم قد انخفض من 250 مليون إلى 125 مليون، و تقلص إلى 14،8 في المائة من مجموع السكان في المناطق الريفية .وعدد الفقراء انكمش بمعدل بلغ في المتوسط 17،86 مليون سنويا. وبالرغم من أن دور الزراعة في الاقتصاد الصيني قد تراجع. فإنها لا تزال تساهم بنحو 12 ٪ من الناتج المحلى الاجمالى وتوفر نحو 40 % من فرص العمل سنة 2006. وتكمن أهمية الإصلاح الزراعي والتنمية الريفية في كون أن معظم الفقراء يعيشون في المناطق الريفية، وان الزراعة لازالت مشغل أساسي للساكنة بالريف فبلغ إجمالي العاملين بالأنشطة الزراعية حوالي 50 % من سكان الريف. كما أن الزراعة في الصين نجحت في توفير الغذاء لنحو 1،3 مليار صيني، وتعد أحد الروافد الأساسية للاقتصاد الصيني. فصافي الصادرات من المنتجات الغذائية(بما في ذلك مصايد الأسماك) بلغ أزيد من 5 مليارات دولار سنويا مابين 2002و 2008. و في الختام أقر بأني حاولت أن ابسط الموضوع قدر الإمكان لكني عجزت عن تحقيق أقصى درجات التبسيط ، لكن أهم الاستنتاجات التي ينبغي استنتاجها من هذا التحليل، و تحديدا للقارئ العربي، هو أن عملية التنمية ليست بالعمل العشوائي بل هي تراكم إنجازات و علاج دوري للاختلالات التي تمس بنية المجتمع و هو يسير باتجاه النمو و التوسع. و لما كانت عملية التنمية كذلك فلابد على هذا المجتمع أن يحدد اختياراته بدقة هل يريد البقاء في القاع أم يريد الصعود للقمة ، كما عليه أن يختار قادة قادرون على التفكير خارج الصندوق لإبداع و ابتكار الحلول للمشاكل و العوائق التي تواجه قطار التنمية، بدلا من الاكتفاء بقادة جهلاء و عملاء محدودي الأفق و التفكير …و لكم واسع النظر …