استيقظت باكرا من نوم مضطرب ومتقطع تخللته مشاهد الدمار في غزة. غسلت وجهي بالماء البارد، ودخلت إلى المطبخ كي أعد قهوتي الصباحية، وفجأة سمعت هدير الطائرات وأصوات القذائف. اعتقدت أن منامات غزة تحتل نهاري مثلما احتلت ليلي، قلت هذا مجرد منام، وتابعت احتمالات الماء الذي يتحول حُبابا في انتظار البن. لكن أصوات هدير الطائرات عادت من جديد، ومعها بدأت الانفجارات تتوالى. الآن صرت متأكداً من أن بيروت بأسرها، وليس الضاحية الجنوبية فقط، تتعرض للقصف. أخذت القهوة وركضت صوب الصالون، وفتحت التلفزيون. كانت إحدى الفضائيات العربية تُذيع بلاغا صادرا عن حزب الله يعلن فيه أن قواته تقصف مواقع الجيش الإسرائيلي في الجليل، محذراً العدو من أن صواريخه تصل إلى ما بعد تل أبيب وديمونا. تسمّرت أمام الشاشة مذهولا، ثم استمعت إلى سلسلة بيانات صادرة عن المقاومة الفلسطينية وتحمل توقيعا مشتركا ضمَّ كتائب عزالدين القسام وسرايا أبو علي مصطفى وكتائب شهداء الأقصى وسرايا القدس، وكلها ترحب بهذا التطور النوعي الذي حدث في الجبهة الشمالية، وتتوعد العدو أن أرض فلسطين من البحر إلى النهر ومن الناقورة إلى غزة سوف تكون مقبرة للغزاة الصهاينة. وفجأة مرّ خبر عاجل في أسفل الشاشة يعلن فيه حزب الله أنه يقصف الأراضي الفلسطينيةالمحتلة من الجولان السوري. الأعجوبة التي انتظرها الفلسطينيون تحصل الآن أمامي، فلسطين ليست وحدها، وجبهة المقاومة تحاصر إسرائيل من الشمال والجنوب. كدت لا أصدّق ما أراه على الشاشة الصغيرة، صواريخ المقاومات التي صارت اليوم مقاومة واحدة تلتحم في المعركة. أصاب هذا التطور القيادة الإسرائيلية بالذهول من هول المفاجأة. فلقد أجمعت تقارير الاستخبارات الإسرائيلية أن التحام الجبهات العربية في المواجهة مستحيل، بسبب الصراع الدموي السني- الشيعي الذي يدور في العراق وسوريا ويهدد بإشعال الهلال الخصيب بأسره. بل إن التقديرات الإسرائيلية التي قادت نتنياهو إلى المغامرة بشن حربه الوحشية على غزة كانت تقول إن إسرائيل تستطيع التلاعب بالانقسامات العربية، وتحريض طرف ضد آخر، والتحالف مع من تشاء من أطراف الصراعات الدموية التي تجتاح المنطقة (...) ردود الفعل على هذه التطورات مدهشة، مراسل فرانس بريس في دمشق نقل عن مصادر موثوقة أن قيادة الجيش السوري أبلغت الرئيس بشار الأسد أنها قررت التوقف عن الدفاع عن النظام لأن مهمتها هي الدفاع عن الوطن، وبدأت القوات السورية بالانسحاب من محيط دمشق في اتجاه هضبة الجولان، وقد انعكس ذلك على الشارع إذ بدأ اعتصام كبير في ساحة الأمويين مطالبا برحيل النظام، والقتال ضد العدو الإسرائيلي. كما تسربت معلومات عن بداية تفكك قوات «داعش» في الرقة. لكن الخبر الأكثر إثارة جاء من مراسل «رويترز» في الموصل، إذ تسري إشاعات في المدينة عن اختفاء الخليفة إبراهيم، وانهيار شامل يصيب جميع الميلشيات السنية والشيعية التي تتقاتل في العراق. كانت الأخبار تتوالى على إيقاع الحرائق الناجمة عن القصف الإسرائيلي لبيروت، وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي لم أشعر فيها بالخوف من الطائرات المغيرة. خرجت إلى الشرفة، ورأيت الكثيرين على شرفات منازلهم، يستهزئون بالطائرات ولا يخشون الموت. هذه هي لحظة التجلي، قلت لروحي، قوة عجيبة امتلكتني، كل شيء فيّ كان يرتعش، وأنا أكاد لا أصدّق أن العمر امتدّ بيّ كي أرى هذه اللحظة التي نستعيد فيها كرامتنا ونصنع من موتنا حياة نستحقها بجدارة. وفجأة وقع فنجان القهوة على الأرض وتناثر الزجاج، ورأيتني انتفض في سريري وافتح عيني على ضوء الفجر الذي تسلل من نافذتي. يا للهول، فأنا لست في الصالون، والتلفزيون ليس مفتوحاً، والمدينة يلفها سكوت النعاس. كان مناماً. أغمضت عيني كي أعود إلى المنام، لكن الصور تلاشت ولم يبقَ منها سوى شظايا الصور والكلمات. وتساءلت لماذا يكون ما رأيت مناماً وليس حقيقة. وتذكرت أن الطوائف لا توحّد، بل تُقسّم، وأن قرارها ليس في يدها، بل في أيدي أسيادها، وأنها لا تسود إلا على الفقراء وتقودهم إلى الهاوية، وأن فلسطين ستبقى وحدها طالما استمر أمراء الطوائف والملل والنحل في قيادة هذه الأمة إلى حتفها. فلسطين وحدها، ولا تنتظر شيئا من أحد، تستصرخ أبناءها وبناتها أن يستعيدوا لغتهم ومقاومتهم كي تكون هذه المقاومة شرطاً ليقظة العرب المشتهاة.