تروي سيدة الطرب العربي، أم كلثوم، أجمل نكتة سمعتها من صديقها الشاعر أحمد رامي تقول: «مرّ رجل بلباس أنيق على طفل يُحَاولُ قرع جرس باب أحد الدور، لكنه لم يتمكن نظرا إلى قصر قامته، فساعده على ذلك بأن حمله، فلمّا استقر على الأرض قال له: هيا نفر قبل أن يُمسك بنا أهل الدار، فما كان من الرَّجُلِ إلاّ أن أطلق ساقيه للريح!!». وإذا كان مثل هذا السلوك الصبياني قد بدا غريبا وشاذا في نظر سيدة الطرب العربي، فانفرجت أساريرها بالضحك، فإنه أصبح في حياتنا واقعا معيشا مَقْبُولاً، وإلاّ بِمَاذَا نُفَسِّرُ أن يرفع نائب برلماني صَوْتَهُ محتجا على عدم ذكر بلدته من ضمن المدن التي تُعددها قاَرئة نشرة الأخبار الجوية، مما جعل زملاءه يفغرون أفواههم أمام العرق المُتَصَبب من جبين الرجل وهو يرغد ويُزبد، وَمُعْظَمُهُم يُدرك أن ما يفعله لا يَرْبُو أن يكون لعبة استغماء لإيهَامِ مُرَشَّحِيهِ أنه يدافع عن حقوقهم. في مَرَافقنَا العمومية لَعِبٌ للأطفال، أبطاله مسؤولون يُجِيدُونَهُ بسبق إصرار وترصد، بالطريقة ذاتها التي يَبْنِي بها الصبية قصورا من الرمال على الشاطئ، ويلقون القبض على بعضهم البعض في لعبة الشرطي واللص، ويقسمون بالله كَذِباً بَريئًا، ويذرفون دموع المسكنة تمثيلا، ويلعبون ويمرحون ويجْزُونَ الوقت تبديدا، بالأسلوب ذاته المُتْقَنِ، يقع تَصْرِيفُ الأشغال بِمَا يوحي أننا فعلا جادون في ما نفعل !! استمر مقاول مغربي، في طريقه إلى شَرِكَتِه بِمَعِيَّةِ مُسْتَثَمِرٍ أجنبي، يخرق علامة الضوء الأحمر، ليُفَاجأ باختفاء رفيقه بمجرد وصُولهَما، إذ َسْمَعُه يَقُولُ له عبر هاتفه المحمول، عدت إلى المطار، أنت تخرق القانون لأنك تستغل غياب شرطي المرور، وسأعاني كثيرا إذا ما تعاقدت مع إنسان بهذا السلوك الأخرق، انتهى ما بَينَنَا!! في لقاء جَمَعَنَا بوفد أوروبي مُتَعَدِّد الجنسيات، تقدم منَّا المسؤول المغربي وقال: نحن نتحفظ من هذه الشراكة ولا نرغب فيها، بَيّنوا للمشاركين أنَّكُم جادُّون فعلا في العمل. وكم بدا الموقف مؤسفا سَمِجًا عندما قَارَنّا بين سواعد فتية جادة تعرض مشاريعها وأفْكَارها وسبل تطبيقها، ونحن أمامها ممثلون بارعون، ولم تَسَعْهُمْ كلمات الشكر على مظهر خادع من الكرم والترحاب، وانتهى المشروع برمته بفشل ذريع من جَانِبنَا، ونجاحه الباهر في بُلدَانِهم !! ليس غريبا أن تكبر فينا الطفولة بعبثها وشغبها وفوضاها، فنألف الضحك على الذقون كما لو أنه سلوك مثالي معتاد، ونجبر عقولنا على قبول ما لا يستسيغه المنطق والذوق السليم، وقد يسقط في يدنا عندما لا ننتظر سلوكا صبيانيا ماكرا ممن نُحْسِنُ بهم الظن، وقد حدث أن طلبت من رجل قانون أن يستمع إلى حوار سأجريه في برنامج «ندوة المُسْتَمِعين»، لكن لسبب ما لم يُنجز البرنامج، ورغم ذلك فوجئت بصاحبي يقول لي: «كنت رائعا، إذ أقنعت مُحَاوريكَ بِشكْل مُلْفت للنظر، فلم أجد جوابا، واسْتَعْصَى عليَّ لاحقا أن أجالسه!!». نحن نلهو بِجِدٍ ونُجِدُّ بِلهْو، برامجنا ولقاءاتنا واختياراتُنَا تعكس ذلك، فمثلما كنا نَقُومُ صِغَارًا بِتَعْيين- بَعْضِنَا البعض في مهام تمثيلية رفيعة على سبيل المزاح، نفعل ذلك اليوم، ونحن كبارًا بمُسحة من الجد وتقطيب الحاجبين!! وإذا كانت سيدة الطرب العربي قد ضحكت ملء فيها من نكتة أحمد رامي، فإن السلوك غير العمدي للرَّجُل الكهل باللباس الأنيق، الذي أطلق سَاقَيْهِ للرِّيحِ إلى جانب طفل يلهو، أصبح في يَوْمِيَاتِنَا عَمْدِيَا وعن قصد معنوي خاص، ولذلك صدق فينا المثل السائر: «من يتناولُ سُحُورَه مع الأطفال يُصْبح مُفْطِرًا، فَكَمْ عَدد المُفْطِرين» !! رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]