وراء بياضه البريء، يخفي الثلج وجها بشعا لا يعرفه إلا البؤساء الذين يعشون في الجزء الأقسى من الجغرافيا، خارج حسابات الدولة، حيث يتحول الصقيع إلى وحش يعيث فسادا في الأرض ويحصد الأرواح، بلا شفقة أو رحمة، رغم الشعارات و"المستشفيات الميدانية" التي تقام في نشرات الأخبار، بعد فوات الأوان! في الوقت الذي يستعد فيه البعض إلى تحدي الوباء والذهاب إلى إيفران لأخذ الصور مع ندفه البيضاء، يتهيأ آخرون إلى خوض معركة حياة أو موت معه، وتقديم قرابين جديدة للصقيع، في معركة مستمرة منذ أعوام طويلة، دون أن تصنع الدولة شيئا من اجلهم. ولا أعرف متى ستقتنع السلطات المغربية أن من يعيشون في المناطق التي تنزل فيها الحرارة درجات تحت الصفر، يحتاجون إلى مساعدات استثنائية في فصل الشتاء، مثل تلك التي تمنح لسكان الأقاليم الصحراوية، كي يتمكنوا من مقاومة البرد، لأن وضعهم استثنائي، وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم مرادف ل"عدم تقديم مساعدة لشخص في خطر"؟! إذا كانت الدولة تدعم سكان الأقاليم الجنوبية لمواجهة خطر الانفصال، فإن مغاربة الأطلس يواجهون ما هو أبشع: الانفصال عن الحياة، وليس فقط عن الخريطة! بدل الانشغال بهؤلاء البؤساء، يفضل الجميع التفكير في إيفران، ببيوتها القرميدية وفنادقها المكيفة وجوها الأوروبي، يتسابقون على الذهاب إليها من أجل التزحلق والتقاط صور مع الأسد الذي يقف ببلاهة وسط المدينة، وقد كست رأسه ندف بيضاء، قليلون يعرفون الوجه الحقير للثلج. غير بعيد عن محطة التزلج وجامعة الأخوين وفندق ميشليفن -الذي تكلف فيه الليلة أكثر من خمسة آلاف درهم- يعيش أشخاص لا يملكون أبسط الوسائل لاستقبال ضيف مجرم، لا يتردد في ارتكاب أبشع الجرائم، دون تفريق بين الشيخ والمرأة والطفل والمريض. كثير من العائلات في المنطقة تعيش على الرعي، وبعضهم من الرحل الذين ينامون تحت الخيام وفي الكهوف، ولنتصور معاناتهم في هذه الأيام العصيبة، حيث تصل الحرارة درجات تحت الصفر، وتقل الموارد ولوازم الحياة، وتنقطع الطرق المؤدية للمراكز الحضرية من أجل التسوق والتزود بالمستلزمات الضرورية للعيش. دون الحديث عن المشردين وعابري السبيل ومن لا يملكون مأوى، الذين ينفقون مثل حيوانات، دون أن تخسر عليهم الدولة أكثر من شبر تراب في مقابر بعيدة. نحن الذين عشنا في «العصر الجليدي» نعرف حجم المأساة. نتذكر معاناة الأسر الفقيرة لتوفير حطب التدفئة، كيلا يموت أفرادها من البرد. ميزانية إضافية تثقل كاهل العائلات كل عام بالتزامن مع الدخول المدرسي. الدولة لا يعنيها ذلك، لم تفكر يوما في وضع نظام دعم أو مساعدة لفائدة مواطنين يخوضون معركة مصيرية مع الطبيعة. حتى وزارة التربية الوطنية لا تصنع شيئا لتأمين الدراسة، وسط هذه الظروف القاسية، إذا أراد التلاميذ مواصلة التحصيل، عليهم أن يجلبوا الحطب من بيوتهم لتدفئة الفصل. يحمل التلميذ محفظة في يد وعود حطب في الأخرى ويأتي للمدرسة. أيادي الصغار تظهر عليها نتوءات زرقاء بسبب البرد، والدموع تتجمد على الخدود، وكثير من الأمراض المزمنة تتسلل إلى الأجساد النحيلة في وقت مبكر. في الوقت الذي ينعم به المحظوظون بالدفء وكل وسائل الراحة، ويأخذون صورا مع "البونوم دونيج" بعيونه السوداء وابتسامته الصفراء... من رأى ليس كمن سمع. الثلوج كانت تقطع الطرقات والتلفزيون والمدرسة. أحيانا تكون مسافرا وتضطر إلى العودة أدراجك لان الطريق مغلقة، في انتظار أن تأتي كاسحة الثلوج كي تزيل جبال الصقيع. أما بث التلفزيون فكان يتوقف تلقائيا، لأن محطة الإرسال موجودة في أعالي ميشليفن، وعندما يسقط الثلج يتعطل البث. كنا نقضي ليال طويلة بدون رسوم متحركة وبدون مسلسل عربي وبدون شريط دولي مطول... قمة الحزن والكآبة. حتى الكهرباء تنقطع أحيانا، والماء يتجمد في الصنبور، مما يضطرنا لتذويب الجليد كي نشرب... باختصار، كنا نعيش في «سيبيريا»! قليلة هي الأصوات التي تدافع عن مغاربة «العصر الجليدي»، لأنهم يعيشون في تلك الجغرافيا التي صنفها الاستعمار ضمن «المغرب غير النافع»، وليس من عادتهم الشكوى والتظلم، والنواب الذين يفترض أن يدافعوا عن قضيتهم يسكنون في فيلات مكيفة بالرباط! "لِمَ يصلح الثلج؟" هكذا تساءلت الشاعرة اللبنانية-الفرنسية فينوس خوري-غاتا في أحد دواوينها الجميلة (شيرش ميدي)، قبل أن تجيب: "لمسح الأرض وإعادة كتابتها بشكل صحيح".... ما أحوجنا إلى إعادة كتابة هذه البلاد بشكل صحيح!