كان مثيرا أن يحمل فصل من كتاب جديد للمثقف والناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، حسن أوريد، توجسا من الثورة الرقمية، في «عالم بلا معالم».. عالم في مرحلة انتقالية، أحيانا يحمل الخطاب الشعبوي اليميني إرهاصات تحوله نحو الفاشية، وأحيانا يخفت الضوء ولا يبدو من الأفق غير دخان الحاضر المأزوم. كان مثيرا أن يظهر المثقف الخوف من الجانب السلبي الذي قد يجعل الإنسان عاريا، و«الإنسان العاري» عنوان كتاب نشر سنة 2016 لكاتبين حول ما فعلته التكنولوجيا الحديثة بالمجتمعات والأفراد. «عالم بلا معالم» هو الكتاب الجديد الذي خصص فيه أوريد فصلا لتعرية الوجه القبيح للتكنولوجيا الرقمية أكثر من الحديث عن محاسنها، وإن لم يغفل ذلك، والحديث عن قبضتها على الحرية أكثر مما هي نافذة لها، وإن كان لا يغلق تلك النافذة، لكن الحديث تكرس في غالبيته على انتهاك الحرية الفردية والخصوصية من لدن هذا العالم الجديد؛ العالم الافتراضي، الذي في نظره يجعل «الشبح حقيقة» و«الحقيقة افتراضية أو شبحية». يصعب التسليم بهذا المنظور الفلسفي للعالم الافتراضي بأنه يخلق حقيقة شبحية، فتوسع مجاله ووظائفه قد يرى فيه البعض عالما موازيا، يسير على الأرض بمخلفات وأثر واقعي، وسلطات حقيقية، ولو كانت حقيقته شبحية ما كان للتوجس أن يكون حقيقة، وهو حقيقة لها ما يبررها واقعيا، والقصص كثيرة، ويعلم أوريد بعضها، فقد تغير الزمن الذي كان يسير فيه المعارض أو الصحافي المزعج أو المثقف عموما وهو يلتفت توجسا من أن يكون خلف خطوه خطو آخر يتعقبه، الآن يحاولون إخفاء خطواتهم عبر مراوغة الهاتف، والهاتف حقيقة تمسكها اليد.. الهاتف في الجيب، وهذا «الشبح» هو الذي يدفع واقعيا البعض إلى الصمت اتقاء لشر ما. عموما، يتماشى متن الفصل مع روح الكتاب، فكما طغت فكرة تقييد الحرية في تحليل الكاتب داء التكنولوجيا الرقمية، طغى الحديث عن كساد الديمقراطية وأزمتها ومكامن العطب فيها وفي العالم الذي ولدت في مهده، وهو الغرب، فأزمة الديمقراطية لا توجد إلا في البلدان الديمقراطية وليس في البلدان المعافاة من أعراضها أصلا، لأن داء السلطوية بها يمنحها مناعة ضد الرشح الديمقراطي. لكن حين الحديث عن وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الرقمي، فقد قدمها الكاتب بصفتها داء شاملا. هكذا تصير نافذة الحرية هذه في نظر أوريد خطرا على الحرية نفسها. النافذة، التي جعلت من مستعمل الهاتف الذكي مواطنا بالسمات الافتراضية المفترضة في المواطنة، تدفع الشاب المغربي إلى مقارنة مستوى عيشه بما يعيشه قرينه في العمر في بلدان أوروبية أو أخرى من التي يرى فيها حلما لم تره عينه في واقعه. هذه التكنولوجيا التي تجعل من إعادة النظر في ثنائية المركز والمحيط ضرورة فكرية آنية، فالشباب الذي قد تدفعه العطالة أو تدهور الخدمات العمومية إلى الاحتجاج في أي ركن من هذه البلاد، يصير صوته مركزيا الآن بفضل هذه الوسائل، والنماذج كثيرة عن بلدات ومناطق تحتسب تقليديا في المحيط صارت مركزية بسبب دور وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال صوتها، لعل أبرزها في المغرب مدينة الحسيمة التي انطلق منها حراك الريف وبعض البلدات المحسوبة على الريف. لم يغفل أوريد إسهام وسائل التواصل الاجتماعي في ما سمي بالربيع العربي، وتحدث عن دورها في مصر قبل الانقلاب العسكري، لكنه سرعان ما يستدرك ويتساءل: «لكن، هل حقا تسهم الثورة الرقمية في توسيع دائرة الحرية، ومن ثمة في دك صروح الديكتاتورية؟ التكنولوجيا ليست محايدة، ولا يمكن التكهن بمضاعفاتها، ولم تجر عبر التاريخ وفق ما أراده لها من وضعوها. أليس هناك وجه آخر للأنترنت، وهو أن السلطات الأمنية يمكنها أن توظف التكنولوجيا الرقمية للتحكم في حرية الأفكار وضبط المجتمع؟ ألن تكون الثورة الرقمية أداة أكثر فعالية في يد الأنظمة البوليسية؟ ألم تنتهِ إلى فقدان أوهام أصحاب رؤى الطوباوية السيبرنطيقية؟ فخصوم الديمقراطية من مرجعيات راديكالية، كما تنظيم القاعدة، أو أنظمة بوليسية كما في العالم العربي، أو استبدادية كما إيران، أو سلطوية كما روسيا، أو شمولية كما الصين، يستعملون الثورة الرقمية للتضييق على مجال الحرية. تستعمل الثورة السيبرنطيقية للتحكم والتتبع والضبط، من خلال أدوات الرصد والأخبار الزائفة وأدوات التضخيم». الأسئلة عن كيف يمكن أن تتحول التكنولوجيا الرقمية إلى أداة تسلط وقهر، طرحها كذلك Yuval Noah Harari في كتابهsiècle 21 leçons pour le XXI، في فصل يتحدث فيه عن «الديكتاتوريات الرقمية»، وكيف أنه بين يدي حكومات «خيرة» يمكن أن تكون لوغاريتمات المراقبة القوية أفضل شيء لم يره العالم قبلا، وكيف يمكن لوغاريتمات «البيغ داتا» نفسها أن تطلق العنان لمستقبل يسكن الأخ الأكبر كل تفاصليه، وأن ما يمكن أن تحدثه هذه الرقميات أمر قد يذهب إلى أبعد من خيال جورج أورويل في روايته «1984»، حين يجد الأفراد أنفسهم أمام نظام أورويلي حيث كل الأفراد يخضعون للمراقبة، وإذا كان ما يخيف الأنظمة السلطوية هو ألا يظل الأفراد دائما مطيعين، فكتاب «21 درسا للقرن 21» يقول إن المشكل الحقيقي مع الربوهات هو العكس تماما، وإذا كان من خوف فعلى الأرجح يجب أن يكون منها لأنها دائما في طاعة أسيادها ولا تتمرد أبدا، ويذهب الخيال إلى ما يمكن أن يحدث من فظاعات ليس بسبب الذكاء الاصطناعي للربوهات، وإنما بسبب الأغلاط والشر الطبيعي لأسيادهم من البشر. «وظفت الأنظمة الاستبدادية الثورة السيبرنطيقية لصالحها. يمكنها التتبع ومعرفة التموقع والتنصت بشكل غير مسبوق. يمكن السلطات الأمنية أن تتتبع حركة أي شخص وأي جماعة، من خلال وسائل الأثر التي تحدثها التكنولوجيا. تفعل ذلك من بعيد، دون حضور أو فجاجة»، يقول أوريد، في «عالم بلا معالم»، وهو يؤكد ما يمكن أن تحدثه هذه الثورة الرقمية من أضرار في التربية وفي الأخلاق وفي الأسر، ويشبه الحاجة إلى الحرية الفردية، التي صارت تتعرض للغزو، كالحاجة البيولوجية إلى النوم. هذه الحريات وحماية الخصوصية هي الدافع الذي جعل أصواتا في بلدان أوروبية تدق ناقوس الخطر، وأيضا منظمات دولية ك«منظمة العفو الدولية» و«مراسلون بلا حدود» ترافع من أجل حماية الخصوصية ضد الحكومات التي لجأت إلى برامج تقنية وتطبيقات في هواتف المواطنين من أجل مواجهة وباء كورونا والحد من العدوى. «عمليات التتبع واقتفاء الأثر، مع وسائل الاتصال الحديثة، شاملة.. وسهلة. من خلال الهاتف الذكي، الكمبيوتر وبطاقات الائتمان والأسفار، وحجوزات الفنادق، وكاميرات المراقبة، والحساب البنكي، والمعاملات المالية... يمكن أن تتحول وسائل التواصل بسهولة إلى وسائل للتنصت، وضبط مكان التموقع. الهاتف الذكي ليس بالضرورة أداة لخدمة الشخص، بل كذلك في خدمة الأجهزة الأمنية»، يقول أوريد وهو يستشهد بدول ديمقراطية عريقة، وكيف فتحت لها محاربة الإرهاب باب التوغل في حريات الناس الشخصية، بل الأكثر من ذلك كيف أن الأخبار الزائفة، التي تعد منصات التواصل الاجتماعي مجالا خصبا لها، يمكن أن «تستعمل للتسييج الإعلامي والتضييق السياسي»، وكيف يمكن أن تسهم في تفكك مجتمعات وانهيار دول، وليس بعيدا نموذج العراق الذي جرى غزوه عبر استعمال الولاياتالمتحدةالأمريكية سلاح الأخبار الزائفة، وفق أوريد، الأمر الذي كشفت حقيقته أوضاع البلد في ما بعد الحرب، حيث دُمِّر العراق ولم تدمَّر أسلحة الدمار الشامل، ومازالت الأخبار الزائفة سلاحا للتدمير في يد الأقوى.