السياسة حقائق مادية ملموسة، وميزان قوى فوق الأرض، لا حسابات حالمة. وزع بايدن وعوده كما شاء، ويبدو أن بعض الحالمين صدّقوا ذلك، ويتوقعون دعما أمريكيا خلال المرحلة المقبلة للقوى الديمقراطية والمدنية في منطقتنا على الأقل. يقول بعضهم إن إدارة بايدن ستقف إلى جانب قوى حقوق الإنسان والديمقراطية، ضد الأنظمة التسلطية التي دعّمها ترامب خلال ولايته، والدليل على ذلك أن بايدن هدد صراحة بمعاقبة تلك الأنظمة، وذكر السعودية بالاسم في قضايا محددة، مثل الحرب على اليمن، ومقتل الصحافي جمال خاشقجي. لا شك أن بايدن من أنصار القيم الديمقراطية الكلاسيكية داخل حزبه، ويمثل تيارا قويا داخله إلى جانب هيلاري كلينتون وباراك أوباما، لكن الوعود الانتخابية شيء والسياسات الواقعية شيء آخر تماما، ومن المستبعد أن يمضي بايدن في تنفيذ وعوده، لعدة حقائق موضوعية؛ أولا، يواجه بايدن مشاكل داخلية في بلاده، ستكون على رأس أولويات إدارته خلال الولاية الأولى من رئاسته على الأقل، منها الآثار الاقتصادية والاجتماعية لفيروس كورونا، والانقسام الداخلي الذي خلّفه الصراع على السلطة بين ترامب وبايدن، ولعل قرار تعيينه رون كلاين لشغل منصب كبير موظفي البيت الأبيض مؤشر قوي على ذلك. لقد برّر بايدن قرار اختياره كلاين بأن هذا الأخير متنوع القدرات والمهارات التي تمكنه من الاشتغال مع مختلف الأطياف السياسية، «خاصة أننا نواجه ظروفا عصيبة، ومن أجل لم شمل بلادنا من جديد»، وهو تأكيد صريح في الاتجاه المذكور. ثانيا، من المرجح أن يعيد بايدن توكيد الأولويات الاستراتيجية لبلاده كما سطّرها رفقة الرئيس السابق باراك أوباما، أي التركيز على ثلاث مناطق حيوية لاستمرارية القيادة الأمريكية للعالم، وهي أوربا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، بهاجس تطويق الصعود الصيني والروسي على السواء، كما هو معلوم، ولا شك أن مواجهة كبرى مثل هذه، قد تدفع إدارة بايدن إلى توظيف الإيديولوجيا الليبرالية في مواجهة النموذج السلطوي كما تمثله الصين وروسيا، على تفاوت بينهما، لكن، لا يبدو أن الاستعمال الإيديولوجي للقيم الكونية قد ينطلي على بقية الشعوب والدول. المعطى الثالث أن بايدن، الذي يتوعد السعودية اليوم، لم يفعل الشيء الكثير خلال ولايته الثانية نائبا للرئيس السابق باراك أوباما، لقد وقف مثل المفترجين على عمليات القمع والتقتيل الجماعي في سوريا ومصر، مثلا، خلال ولايتهما الثانية (2012-2016)، وهي سياسات استمرت في عهد ترامب، لا فرق سوى أن أوباما