في الأسبوع الماضي أنهينا حديثنا بالإشارة إلى عملية إيهام للرأي العام يقوم بها البعض، تقوم على عرض مواقفهم أو أمانيهم على أساس أنها تعكس موقف الدولة، أو الجهة المتنفذة فيها، وقد يصل الاستخفاف بنتائج هذا اللعب «غير النظيف» إلى حد الإيهام بأن ما يعرضونه هو وجهة نظر القصر. رأينا هذا، مثلا، في تأويل تدوينة وزير سابق يهاجم القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين بأنه حديث غير لائق عن الملك، وهي محاولة للإيهام بأن القصر وراء هذا القاسم الذي لا تعرف إلى حد الآن الخيمة التي خرج منها مائلا. ورغم تتالي تصريحات صريحة وضمنية رسمية تتجه في منحى مغاير لهؤلاء الناطقين الرسميين باسم هواهم (أو هوى جهة ما)، فإنهم يستمرون في اقتراف لعبة تقمص التعبير عن «إرادة الدولة». وقبل أن نعطي ثلاثة أمثلة دالة، سيكون من المفيد أن نتحدث عن الخطاب الملكي الأخير من مدخل «ما لم يقل». لم يتحدث الخطاب الملكي عن الانتخابات المقبلة، ولا عن تطورات الملفين الصحراوي والفلسطيني، وعدم التطرق إلى هذه الملفات في اعتقادي له رسالتان: الأولى؛ أن العملية الانتخابية يجب أن تصبح فعلا منتظما لا يتطلب تدخل القصر لضبط انتظامها، فتلك مسؤولية الحكومة والداخلية والأحزاب، والقصر غير متخوف من مخرجاتها، وهو على مسافة من جميع الأحزاب، في تجسيد ضمني لمقولة: كل الأحزاب هي أحزاب جلالة الملك. وبالتالي، فقوة النظام السياسي في هذه المرحلة تجعله ينأى عن التدخل في الضبط الانتخابي. الثانية: أن عدم التطرق إلى التطورات الحاصلة ميدانيا في ملف الصحراء والملف الفلسطيني، في علاقتهما سواء بمخرجات مجلس الأمن أو الانتخابات الأمريكية أو التطورات الدبلوماسية في الشرق الأوسط، يعني أن الملك يزكي خطاب رئيس الحكومة أمام دورة الأممالمتحدة الأخيرة، وبالتالي، فمواقف القصر/الدولة/النظام هي نفسها المواقف التي عبر عنها رئيس الحكومة. لذلك، اقتصر الخطاب على ما هو مرتبط بتجاوز مخلفات الجائحة، سواء لجهة تحصين القطاع الصحي، والموازنة بين خطة إنقاذ الاقتصاد الوطني توازن بين دعم المقاولات والتقليص من مظاهر الهشاشة الاجتماعية. أي أن القصر يقدم نفسه فوق الصراعات والمناورات الظرفية. لنعد الآن إلى لعبة منتحلي وظيفة الناطقين غير الرسميين من خلال ثلاث حالات: الحالة الأولى: ترويج حكومة إنقاذ وطني تقنوقراطية، وكأنها رغبة الدولة، والتي سرعان ما خرجت الدولة نفسها عبر رمزية وزارة الداخلية، للحديث عن إجراء الانتخابات في وقتها المحدد، لينتهي جدل حكومة تقنوقراطية سريعا، وقد كان هذا الطرح «بليدا» لأنه في الوقت الذي يجب أن تظهر الدولة قوية عبر مؤسساتها المختلفة، يخرج السحرة من قبعاتهم أرنب حكومة تقنوقراط تقوم بوظيفة الإنقاذ، والحال أن من قاموا بتدبير زمن الجائحة هم التقنوقراط أساسا. الحالة الثانية: هي الهجوم على رئيس الحكومة بسبب تصريحاته في نشاط حزبي متعلقة بالقضية الفلسطينية، واعتبار تلك التصريحات غير موفقة لا في الصياغة ولا في التوقيت، وأنها سطو على اختصاصات الملك، وستمثل إحراجا للملك والدولة والخارجية، وهلم «تهويلات»، ووصل العبث منتهاه بتدبيج مقال في صحيفة إسرائيلية يتحدث عن علاقات بين حزب رئيس الحكومة ومنظمة حماس. وكما في الحالة الأولى، فسريعا ما ستخرج الدولة بموقف لا يختلف عما قاله العثماني، وهو الموقف الذي تلاه رئيس الحكومة في دورة الأممالمتحدة الأخيرة، وطبعا، لا يمكن أحدا أن يعتبر ذلك موقف العثماني وحده. إنه خطاب يمر من مصفاة القصر حتما. الثالثة: هي الإيهام بأن القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين هو اختيار الدولة، وأن البيجيدي وحده خارج الإجماع، ويكمن تهافت هذا الطرح في أنه يظهر الدولة ضعيفة من حيث يدعي الدفاع عنها، وكأن هذه الدولة بأجهزتها وتاريخها متخوفة من تصدر حزب الانتخابات، وهو الذي أبان ليس عن ليونة فقط، بل عن رضوخ تام وتماه «صوفي» معها، وهو طرح متهافت لأنه يقدم البيجيدي مدافعا وحيدا عن الديمقراطية من حيث يظن أنه يعزله، وأحيانا لا أفهم هذه الهدايا التي يمنحها خصوم البيجيدي له، فلقد منحوه سابقا شرف مقاطعة لم تخرج من مقراته بل ناهضها وزير من وزرائه علنا، وشرف تجميد مشروع قانون الكمامة عبر ادعاء أن الرميد من سربه، رغم أن وزراء البيجيدي متورطون في تمريره رفقة آخرين في مجلس حكومي، واليوم يمنحونه شرف الوقوف في وجه مشروع انتخابي يمثل البؤس والعبث. قد تكون حكومة التقنوقراط، وتسهيل ممكنات التطبيع الرسمي قريبا مع الدولة العبرية، وإفشال تصدر البيجيدي للانتخابات المقبلة هوى جهة ما، ولكن ليس بالضرورة هي اختيارات النظام أو هواجسه، ولا أعتقد أن البيجيدي يمتلك من الشجاعة ما يمكنه أن يكون قائدا لمواجهة اختيارات النظام.