كانت الأيام الأخيرة حافلة بالوقائع على غير العادة، لدرجة أن المرء لا ينتبه لتفاصيل، حتما لا تكمن فيها الشياطين فقط، بل تمارس هواياتها في الفوضى والهدم غير الخلاقين، ولأن الواقع الذي نحسه أضحى هو ما تحدده الأخبار العاجلة، لا الواقع الذي يتحرك معنا، فقد أصبحت على سبيل المثال تقلبات كورونا مثلها مثل تقلبات أحوال الطقس في النشرة الجوية، أرقام عابرة في انتظار "غودو" /مسيح اللقاح المخلص. وربما يسدل الستار ب"شمس عشية". من كتاب وقائع الأسبوع الماضي اخترت اثنين: 1 الصحراء التي لا نعرفها: تابعت النقاشات (القليلة للأسف) حول التطورات الأخيرة بهذه المنطقة، التي استحالت حذاء في رجل البلد، يؤلمه حين يضيق، ويجعل مشيته غير متوازنة حين يتمدد مقاسه، لم أجد غير انتظارية قاتلة عند الأحزاب والنخب (بمن فيها "أخصائيو" العلوم السياسية) والإعلام (نابت "أخبار اليوم" رغم الضربات، كما فعلت يوم دافعت عن قرار الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي). لا يقتصر الأمر على انتظار موقف رسمي لتبدأ حفلات التزمير، بل إن ما رشح من تحليلات قليلة أبانت عن عدم متابعة لما يقع في الصحراء من تطورات، ووقائع، وتوجهات، وحساسيات، وانتقالات بين الأجيال والقيم والاختيارات، يكتفي المحلل بتكرار لازمتي: هذه التطورات تبين عن أزمة البوليساريو، وكل ما يحدث هو في صالح المغرب. وكأننا نحتاج إلى خطاب التطمين، عوض خطاب التفكيك وإعادة التركيب من أجل الفهم أولا، وبناء الموقف تاليا. وللأسف فهذا الجهل "المقدس" بملف الصحراء مشترك بين النخبة والعامة (إذا صح هذا التقسيم)، بدليل أن كثيرين يعرفون مواقع مدن سورية أو عراقية، وأسماء قيادات مصرية معارضة، ومستجدات النزاع في شرق المتوسط، ويجهلون الخريطة القبلية والسياسية والحقوقية والجغرافية بالصحراء، حتى ليخيل إليك وكأن هناك سياسة ممنهجة لإبعاد ملف الصحراء عن اهتمامات المغربي. مع العلم أن تعقيدات الملف وخطورته لا تمس المعيش اليومي للمواطن فقط، بل من شأن الخوض فيها أن يفتح ويصوب مسارات النقاش حول الديمقراطية مدخلا لإشكالين يعوقان تنمية البلد وهما: مشكل الصحراء، والتخلص من قيود المركزية نحو رحابة دولة الجهات التاريخية. 2 قارب "نوح" المسفيوي: كان مشهد وصول القارب الذي أبحر "سرا" من آسفي، ووصل "علنا" إلى جزر الكناري الإسبانية صادما وموجعا، ولكن هذه المغامرة التي لا تخلو من "شجاعة"، شجاعة اختيار قطع تلك الأميال البحرية في قارب تقليدي، هل هو الأمل في الوصول إلى "الهناك" أم اليأس من البقاء في "الهنا"؟ وتبقى صورة ذلك الأب الذي ينزل من القارب وهو يهدئ من روع طفله الذي لم يتعلم الخطو بعد، وصوت ذلك الشاب الذي ما إن وطأت قدمه بلد مستعمر سابق حتى صاح "جونيمار من ديك البلاد". يختصران أزمة البلد في الحاضر وضبابية المستقبل فيه. غير أن ما يجب أن ننتبه له، هو ثلاثة متغيرات في تعاطي الأسر المغربية مع الهجرة غير النظامية، فلم تعد أولا مصدر "إهانة"، بل مصدر "فخر"، لقد اختفت شتيمة "وا الحراگ"، ولم تعد الأسر ثانيا ترفض مغامرة أبنائها، كان المهاجرون "السريون" ينظمون عمليات الفرار الجماعي في غفلة من آبائهم، الذين لا يعلمون بالأمر إلا بعد أن يستلموا جثة الابن، أو يهاتفهم من هناك بعد العبور الناجح، أما اليوم فيتكفل الآباء والأمهات بتمويل هذه الرحلات، ولو ببيع الأثاث والاستدانة، بل إن الأمور وصلت حد هجرات غير نظامية بلمسة عائلية، حيث يحتضن قارب الموت/النجاة الأب والأم والأبناء، في ظاهرة كانت منذ سنوات قليلة حكرا على المهاجرين جنوب صحراويين، وثالثا، إذا كان دافع الهجرة غير النظامية مرتبطا بالفقر والبطالة، فإن ثمة تصاعدا لهجرة أخرى "اختيارية" في صفوف الطبقات الوسطى وما فوقها، هجرة عائلات لها مصادر دخل محترمة، وهجرة شباب حائز على شهادات تمكن من مناصب شغل بأجور مجزية هنا. يقع كل هذا للمفارقة في الوقت الذي لم تتعاف فيه بلدان المهاجر من أزماتها الاقتصادية التي تترجم تراجعا في مناصب الشغل، وصعودا لليمين العنصري المتطرف، وفي الوقت الذي يبدو فيه وكأن معدلات النمو والدخل الفردي والبنيات التحتية بالمغرب أفضل حالا مما كان قبل ثلاثين سنة حيث بدأت ظاهرة قوارب الموت، وتحول البحر المتوسط لمقبرة جماعية.. اليوم لم تعد سواحل المتوسط وحدها نافذة مشرعة على الرحيل، بل، كذلك، سواحل الأطلسي، وصحراء ليبيا رغم خطورتها، والحدود التركية اليونانية، كل هذه الجغرافيات يقصدها مغاربة يائسون وحالمون في الوقت ذاته. مغاربة راشدون وقاصرون. لا تكمن الخطورة في المسالك الوعرة "للهروب"، بل في دلالاتها، التي تعكس "عدم أمان". نعم، المغرب بلد مستقر أمنيا، ولكن مواطنيه لا يثقون في المقبل من الأيام، هناك خوف من المستقبل وعدم ثقة في الطريقة التي تدار بها البلد. يشعر الناس بأن البلد هو للبعض وليس للكل، وبأن المؤسسات (بما فيها القضاء الذي يجب أن يكون صمام الأمان) بقراراتها واختياراتها ونصوصها وضعت لحماية الأقوياء.