كنت قد شارفت على إتمام البناء العام لمقالي الأسبوعي حول السنة الانتخابية التي تنتظرنا في 2021، قبل أن أجد نفسي أتوقف أكثر من مرة، وأنا أتنقل بين المواقع الإخبارية والأرشيف الشخصي لتدقيق هذه المعلومة وضبط ذاك التاريخ، عند مقتطفات الصحافة الدولية من الكتاب الأخير للصحافي الكبير بوب وودورد. يرتبط اسم هذا الأخير في مخيال كل صحافي بفضيحة «ووترغيت» الشهيرة، التي انتهت في بداية السبعينيات بإسقاط الرئيس ال37 للولايات المتحدةالأمريكية، ريتشارد نيكسون، بعد ثبوت تورطه في التجسس على مقر خصومه الديمقراطيين، ولم يكن وراء تفجير الفضيحة سوى الصحافي وودورد وزميله في صحيفة «واشنطن بوست» كارل برينسيت. ليس في الأمر أي انسياق وراء الإثارة أو انجذاب لقصص العالم الأمريكي الغريب، بل لن أبالغ إن قلت إن انتخابات نونبر المقبل، التي ستجرى في الولاياتالمتحدةالأمريكية، قد تؤثر في حياتنا اليومية ومستقبلنا أكثر مما يمكن أن تحدثه انتخاباتنا التشريعية والمحلية المنتظرة السنة المقبلة. ودون الحاجة إلى المجازفة بأية قراءة للطالع، فإنني ممن يعتقدون أن انتخابات نونبر 2016 الأمريكية قد أثّرت في حياتنا وما نحن عليه اليوم، أكثر مما أثرت فينا انتخابات 7 أكتوبر 2016 التشريعية، ولا انتخابات أكتوبر 2015 المحلية والجهوية. فكثيرة هي الأحداث والتطورات التي لم نكن لنعيشها في السنوات الأربع الماضية لولا هذا السياق العالمي الناتج عن صعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. هذا الأخير وإن كان يبدو مقامرا جيدا وتاجرا شاطرا، إلا أنه ربما يكون الآن بصدد التعرض لأكبر خسارة مني بها في رهاناته السياسية والاقتصادية طيلة حياته. فالرجل تقرّب خلال هذه السنة بشكل كبير من «وحش» صحافة السبق في العصر الحديث، وراح ينسج علاقة قوية مع بوب وودورد بشكل جعل لقاءاتهما واتصالاتهما شبه يومية، معتقدا أنه بذلك يحصل على الورقة الرابحة التي تسمح له بهزم الصحافة الأمريكية التي دخلت في شبه اتفاق على مناصبته العداء، بسبب تصرفاته الطائشة وقراراته المتنطعة. المفاجأة التي لم يضرب لها ترامب أي حساب، هي أن بوب وودورد لم يكن يجرّد نفسه من جبة الصحافي المحقق المهني، وهو يخصص الساعات الطوال لمجالسة ترامب وتسجيل حوارات خاصة وحصرية معه، متضمنة أسرارا خطيرة. «صاحب دعوة» الرئيس الجمهوري السابق ريتشارد نيكسون، لم يفقد حسّه الصحافي العالي، ووعيه بدور «كلب الحراسة» في ديمقراطية كبيرة من حجم أمريكا، والمتمثل في كشف الفضيحة في الوقت المناسب، بحثا عن تحقيق الأثر السياسي الأكبر لعملية النشر. عكس ما كان يعتقده البعض من كون أحاديث ترامب الجانبية قد تتضمن بعض الفضائح الأخلاقية الجديدة أو حديثه بالسوء عن بعض الشخصيات السياسية البارزة، سواء منها الأمريكية أو الأجنبية، صدر كتاب «غضب» لبوب وودورد قبل أسبوعين حاملا بين دفتيه قنابل حقيقية، تتمثل في كشف جزء من حقيقة المسؤولين السياسيين، حتى في الدول الديمقراطية الكبرى، أي التلاعب بالحقائق، والدخول في حسابات ضيقة لا تقيم أي اعتبار لمصلحة المجتمع والحياة البشرية. وأخطر ما كشفه الكتاب، انطلاقا من حوارات ترامب المسجلة بصوته وبكامل إرادته، هو ما قاله عن فيروس كورونا في الشهور الثلاثة الأولى من العام الحالي، حيث تبيّن، وعكس التصريحات والقرارات التي جرى اتخاذها، أحيانا، أن البيت الأبيض لم يكن يجهل حقيقة الوباء، ولا يفتقر إلى المعطيات العلمية التي تؤكد أن الفيروس فتاك. فقد كان ترامب يعلم، منذ يناير الماضي، أن الأمر يتعلّق بوباء سيتحول إلى جائحة ويحصد ملايين الأرواح، لكنه أصدر، رغم ذلك، تصريحات الطمأنة والتقليل من خطورة الأمر، بل ودعا الأمريكيين إلى مواصلة حياتهم بشكل طبيعي، وسخر من ارتداء الكمامة. بل إن الرئيس الأمريكي كذب بكل وضوح، حسب الكتاب الجديد، بخصوص طريقة انتقال الفيروس، حيث كان قد أخبر بوب وودورد بأن العدوى تنتقل عبر الهواء وليس عن طريق لمس الأسطح فقط كما كان يتردد في البداية. يعري كتاب الصحافي، الذي هرم لكنه يواصل تعليم الصحافيين الشباب كيفية الإطاحة بأعتى السياسيين، الحجم الكبير لتضخم الأنا لدى الرئيس الأمريكي، ويوضح كيف كان يقرأ عبارات الثناء والمجاملة التي تضمنتها رسالة من رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، بفرح وانتشاء كبيرين، وكيف كانت سعادته كبيرة وهو يلتقيه في سنغافورة أمام «عدد كبير» من الكاميرات، وكيف قدّم بفرح طفولي إلى الصحافي الأمريكي صورته المشتركة مع رئيس كوريا الشمالية باعتبارها إنجازا تاريخيا له، وكيف أن «كيم» روى له تفاصيل إقدامه على قتل عمه ووضع جثته في السلم الذي يمر منه كبار مسؤولي الدولة وقد فُصل الرأس عن الجسد... وحين سأله الصحافي حول استراتيجيته في تدبير الأزمات، قال إنه لا يحتاج إلى استراتيجية، وإنه فور لقائه بزعيم كوريا الشمالية، أحس بأنهما سيتفاهمان، «تماما كما يحصل حين تلتقي امرأة، فإنك تشعر فورا ما إن كان شيء ما سيحصل بينكما أم لا». إعجاب آخر بالخصوم الذين يبدي أكبر قدر من العداء تجاههم في العلن، عبّر عنه ترامب تجاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. «عجيبة هذه العلاقات التي أحوزها، كلما كانوا أقوى ومسيئين أكثر، كنت على توافق معهم. سوف أحتاج إلى من يشرح لي هذا الأمر في يوم من الأيام»، يقول ترامب، حسب الكتاب الجديد، لكن صاحبه الصحافي بوب وودورد يعلّق قائلا إنه لا يعتقد أن شرح الأمر صعب، لكنه لم يقل شيئا خلال لقائه بالرئيس. يعتبر الكثير من المتخصصين في أمريكا أن الصحافي بوب وودورد من النوع الذي ينبغي لك أن تأخذ منه المعلومات الصحيحة والقوية التي يحصل عليها، وتترك الباقي، أي أنه لا يتوفّر على خلفية فكرية أو عدة معرفية تساعده على التحليل والتركيب. بل إن البعض يسخرون من كتاباته، لأنها تسمح للقارئ النبيه بالتعرف بسهولة على مصادرها، لأنه يميل إلى الحديث عنها بإيجابية. لكن، ماذا عساها تكون الصحافة إن لم تكن أخبارا صحيحة وكشفا للمستور وتفجيرا للأسرار التي تهم حياة الدول والمجتمعات؟ في حال خسر ترامب انتخاباته الرئاسية المقبلة، سوف يتذكّر الكثيرون الدور الذي قام به كتاب «غضب» للصحافي الهرم، ليس لأنه كشف ما كان الناس يجهلونه عن الرئيس، فكل ما ورد في الكتاب لا يعتبر مفاجئا، لكن لأنه يتمتّع بالثقة والمصداقية، وتلك كلمة السر.