في الحلقات التالية، التي سيروي فيها عداؤون وعداءات مغاربة صنعوا التاريخ، تفاصيل غير مسبوقة عن سباقات أسطورية كانوا أبطالها، سيجد القارئ نفسه إزاء حكايات مثيرة، مروية بلسان أصحاب الإنجاز. البطلة الأولمبية تتحدث ل«أخبار اليوم» عن السباق وكيف خففت السرعة في اللحظات الأخيرة بكوابيسها.
قطعا لم تنامي ليلة السباق، أليس كذلك؟ كلا، لم أنم ليلتي تلك. كان وقتا بطيئا وصعبا، فكيف مرت ليلتك تلك؟ صعبة للغاية. فقد كنت أشعر، في بعض المرات، بالبرد الشديد، وأصاب برعشة، ثم أشعر بعدها بالحرارة تغزو جسدي، فيتفصد العرق من كل مسامي. وظللت على تلك الحال، أتقلب بلا نوم، إلى ساعات النهار الأولى. هل تراني أكلت أم لم آكل شيئا، «شكون اللي عقل؟ والله ما عقلت». كل ما أذكره أن وزني نزل إلى أن بلغ 45 كيلوغراما. ومع ذلك، «ربي يسر، والحمد لله». في الطريق من الإقامة إلى الملعب، ترى كيف عبرت تلك المسافة؟ كان معي الحاج محمد نودير رحمه الله. وفي تلك الأثناء أخذ مني حذائي «وبقى كيقرا عليه». كنا في «ميني باص» يؤمن الرحلات بين الإقامة والملعب، وطيلة الرحلة لم يتوقف المرحوم عن «القراءة» على حذائي. وحين بلغنا الحاجز الذي يتعين أن يتوقف عنده، أخذه مني مجددا وواصل «القراءة»، وقلت له عندها: «أسي الحاج أش كدير؟ راه خصني نمشي». رحمه الله، ووسع عليه. ترى، أي مشاعر خالجتك وأنت تبلغين ملعب التسخينات وتشاهدين منافساتك، خاصة جودي براون وكريستينا؟ كنت وحيدة في ذلك الملعب، مقابل منافسات تتوفر كل واحدة منهن على فريق عمل من مدربين ومدلكين ومرافقين ذهنيين، وغيرهم. فالحاج نودير ذهب إلى الملعب بعدما افترقنا عند الحاجز المؤدي إلى ملعب التسخينات، أما مدرباي الأمريكيان، فلم يكونا يتوفران على الاعتماد الذي يخولهما الوجود معي هناك. وفي حال رجعت إلى شريط السباق، سترى أحدهما يعانقني عندما كنت أجري دورة شرفية عقب الفوز. وقد سلمني في تلك الأثناء ورقة صغيرة كتب عليها توقيتات العبور من كل حاجز، ومازلت أحتفظ بها إلى الآن، وقال لي: «صليت من أجلك كثيرا». كنت وحدك إذن في ملعب التسخينات. فكيف تسنى لك أن تمدي نفسك بالتركيز اللازم بذلك السباق القريب جدا؟ نعم، كنت وحيدة تحت سياط الشمس. وتلك هي اللحظات الأكثر أهمية في أي سباق، دون منازع. ففي تلك الأثناء بالذات حيث يتعين عليك أن تبرز نضجك، وقد صرت بمفردك، بعيدا عن مدربيك ومساعديك، وكل من تحتمي بهم. ففي بعض الأحيان يكون أحدنا كبيرا في العمر، وطفلا في عقله. وهكذا ينطلق في اللوم الصبياني: «لماذا تركوني وحيدا؟ ألم يكن يجدر بهم أن يظلوا معي بعض الوقت؟». مع أن المتعين في أوقات مماثلة هو أن يتوفر الرياضي على كل ما يلزمه، بحيث تكون حقيبته جاهزة باللباس والحذاء، والغيارات، وقنينة ماء محكمة الإغلاق، تفاديا لأي مساس بها، من يدري ما قد يقع؟ وليس هذا فحسب، بل يفترض في الرياضي أن يحكم عقدة الحذاء، ويتثبت من ذلك. فإن حدث، لا قدر الله، وفكت العقدة، وسقط الحذاء، انتهى كل شيء. أي نعم تبدو هذه تفاصيل كثيرة ودقيقة للغاية، غير أن التركيز معها وعليها مهم جدا ومعقد في آن واحد، على اعتبار أنها قد تزعج البعض، وتسبب له التشويش. وجاءت اللحظات المهيبة والرهيبة في آن، وهي لحظة الإعداد الأخير للسباق. كيف كانت تلك اللحظات؟ حين أجرينا قرعة الحارات، منحت الرقم 3، في حين منحت الأمريكية جودي براون الرقم 8. ويا له من حظ عاثر بالنسبة إليها، إذ كان صحافيو العالم كلهم غير بعيد عنها يحدقون فيها، والمصورون يفترشون الأرض ويصوبون كاميراتهم نحوها، حتى إنها بدت مذهولة، وبساقين ترتعدان، جراء وميض الكاميرات الذي لا ينتهي إلا لينطلق مجددا. وإذا بها تنطلق منهزمة نتيجة لذلك. يلاحظ أنك وضعت بذلتك الرياضية على رأسك وأنت تجرين آخر الإعدادات، فهل كانت أشعة الشمس حارة إلى درجة مزعجة؟ نعم، كانت الحرارة مفرطة للغاية، وأشعة الشمس مزعجة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى نسبة الرطوبة، التي كانت عالية. «السما كانت طايحة لي فوق كتافي»، خاصة أن الملعب كان يغص بالجماهير التي أدت ثمن التذكرة لتعيش لحظات رياضية مبهرة. ترى، ما هو أول شيء خطر ببالك وأنت تقفين في خط الانطلاقة؟ أول ما خطر ببالي عند خط البداية والدي، رحمه الله. قلت لنفسي: «إن يسر الله وربحت، فسأهدي فوزي لوالدي، رحمه الله، ولجلالة الملك الحسن الثاني، لأنه رضي عني، ودعا لنا، ودعا لي حين كنا نغادر». أما حين أعطيت الانطلاقة، فقد أفرغت ذهني من كل شيء. فما إن استنشقت الهواء، حتى صرت في مستوى عال من التركيز. وحتى تلك الجماهير الحاشدة، التي تعد بعشرات الآلاف، لم أعد أسمع لها حسا؛ سواء أكان بتشجيع، أو تصفيق، أو تصفير، أو خذلان أيضا. كانت الانطلاقة الأولى خاطئة، وكنت أنا صاحبة الخطأ في الانطلاق. ورحت أقول لنفسي: «هذا مستحيل». فرغم أنه كان مسموحا لنا، في تلك الأثناء، بخطأ ثان، إلا أن مجرد الوقوع فيه يحطمك تماما. فتركيزك يصبح مختلفا تماما عما كان عليه من قبل. وكيف شعرت وأنت تكتشفين أن الأمر لا يتعلق بك؟ حين رجعنا إلى مواقعنا، اكتشفت أنني لست من ارتكب الخطأ. فتنفست الصعداء، وقلت الحمد لله أنني لست المخطئة، ولكن علي أن أضاعف التركيز. فلئن كنت قد ركزت من قبل جيدا، فالآن صار يتعين علي مضاعفة التركيز. الانطلاقة الثانية كانت جيدة، ورحت أتخطى الحواجز. وفي تلك الأثناء وجدتني أقول لنفسي: «ضاعت مني فرصة الفوز في الألعاب الأولمبية لسنة 1980، إذ كنت في لائحة المشاركين في دورة موسكو (المغرب قاطع، شأنه شأن دول كثيرة، الدورة المنظمة في الاتحاد السوفياتي)، وها هي الفرصة تتاح لي اليوم، وعلي استثمارها على نحو جيد. أي نعم، غدا مدبرها حكيم. غير أنني لست أعلم ما إن كنت سأواصل في ألعاب القوى، أو سأكون في هذه الحياة من الأصل، لذلك، فهذه هي فرصتي. وعلى رأي مدربي، فإنه يومي، إما هذه المرة وإما لا شيء». حاولت أن أوازن جهدي بين الحواجز، يسارا ويمينا، على أن أميل يسارا عند كل مدار لكسب الميلمترات والثواني. فالمتعارف عليه أنك كلما دخلت حارتك وخطك، ازداد ربحك للحيز والوقت. ومن حسن حظي، حينها، أن قامتي القصيرة أعانتني في القفز على الحواجز بسلاسة، لأنها لم تكن عالية جدا. يلاحظ بالإعادة عدة مرات أنك ركضت بمرونة عالية جدا، فما السر في ذلك؟ هذا صحيح، ذلك أنني تلميذة السرعة، في حين أن أغلب من يركضن مسافة 400 متر حواجز جئن من رياضات أخرى مثل الجمباز وغيرها، أو جئن إلى التخصص مباشرة. أنا شخصيا كنت متطفلة على هذا التخصص، مثل كل اللواتي جئن إليه من 100 متر أو 200 متر أو 400 مستوية. منافستي جودي براون الأمريكية كانت صاحبة قامة طويلة للغاية، وبالتالي، فقد كانت الحواجز بالنسبة إليها قصيرة جدا. وبينما يتعين عليك أن تمر على الحاجز وكأنك ستلامسه، كانت هي تبتعد عنه، فتخسر الوقت والمسافة. على العموم، يفترض أن تقفز على الحواجز الأولى باليسرى، ثم حين تستقيم الخطوط توازن بين اليسرى واليمنى، على أن تكون دقيقا جدا. وهنا تظهر قيمة التداريب، ومغزى التكرار والمواظبة، بحيث يتمرن الرياضي على القفز برجليه معا، وفي كل الوضعيات، وبتقنية عالية. حين تصل إلى المدار الثاني، تشعر بتعب هائل. ففي تلك الأثناء، وبينما ترغب في التصاعد علوا مثل أي كنغر يقفز برشاقة، يجرك الحامض اللبني إلى الأسفل بضغط قوي، تحت ثقل جسمك. وكأن قدميك سمرتا على الأرض، ولم يعد بإمكانك أن تحملهما وتقفز مجددا. نوال: المدار الثاني مهم للغاية
هل يمكننا القول إن السباق يكسبه من يحسنون التعاطي مع المدار الثاني والخط المستقيم؟ تماما، فالمدار الثاني والخط المستقيم يعتبران شديدي الأهمية في سباق 400 متر حواجز. ويتعين على الرياضي، في تلك الأثناء، أن يسترجع تلك الألوف، بل ربما مئات الألوف، من القفزات التي قام بها في مساره. فلشدة ما يكرر المرء، تختزن لك التداريب في الذاكرة، معدة لمثل تلك التظاهرات، ولمثل ذلك السباق النهائي الحاسم. وبصدق، ففي لحظة من اللحظات قلت لنفسي: «ربما أكون انطلقت انطلاقة خاطئة». ذلك أنني لم أكن أشعر بأنفاس المنافسات من ورائي، بقدر ما شعرت بأنني أركض وحدي. فحين يكون المنافسون قريبين منك تشعر بهم؛ من خلال أنفاسهم أو ضربات الأحذية على المضمار، أو شيء من هذا القبيل. شخصيا، لم أحس بأي شيء من هذا، بل بالصمت فقط. وبالرجوع إلى شريط السباق، ستكتشف أنني التفت يمينا ويسارا حين اقتربت من الخط المستقيم، إذ كنت أريد التثبت من أن المنافسات يوجدن بالفعل خلفي. أما وقد تيقنت من أنهن بعيدات، فقد اخترت التخفيف من السرعة. فكلهن صديقاتي، وتمنيت لو أنهن يفزن معي. إلى هذا الحد؟ نعم، إلى هذا الحد. وقد بكين معي جميعا بعد النهاية.