بداية، ما هو الإحساس الذي شعرت به وأنت تجدين نفسك الفتاة الوحيدة، بعمر لا يجاوز 22 سنة، ضمن البعثة المغربية إلى أولمبياد لوس أنجلس 1984؟ كان عمري، في تلك الأثناء، بالضبط 21 سنة. وكان الوفد المغربي مكونا في كليته من الذكور، ومن ست رياضات إن لم تخني الذاكرة. كان بيننا، في ما أذكر، الأخ مصطفى النجاري ضمن الموفدين عن الدراجة، فضلا عن رياضيي الملاكمة، وألعاب القوى، وكرة القدم، والجيدو، والتنس، والمصارعة أيضا. استقبلنا الملك الحسن الثاني، رحمه الله، بالقصر الملكي لدرب السلطان (الدارالبيضاء). وكان الوفد يتوفر على لباس موحد، إلا أنا. هل لأنهم نسوا أن ضمنهم فتاة، أم لأمر غير ذلك؟ لست أدري. في كل الأحوال، فقد اتصل بي الحاج محمد نودير، رحمه الله (رئيس الجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى حينها)، وقال لي: «شوفي أشنو تلبسي ليك، راكي مغاديش تمشي للقصر بكوستيم كحل». وهكذا وجدت لي بذلة تخصني، ودخلت مع الوفد. وما جعلني أشعر بالراحة هو أن الملك، رحمه الله، حينما تحدث إلينا، أعطاني الانطباع بأنه يتوجه إلي شخصيا بخطابه، خاصة وهو يقول لنا: «إن شاء الله ستذهبون سالمين غانمين، وإن شاء الله ستحصلون على نتائج طيبة. ولا بد واحد فيكم أو وحدة فيكم (سيحقق نتيجة مميزة)». عندها بالضبط، حين تحدث عن المؤنث، قلت إنه يخاطبني شخصيا. وبينما كنت أقف في الخلف، إذ شُقَّ لي طريق نحو الأمام عند سماع الملك يؤنث، وقيل لي: «زيدي لقدام، راه كيهضر معك. زيدي». ولئن كنت أشعر ببعض الضغط في تلك الأثناء، فإن سماعي ذلك الخطاب قلب كياني كله. قلت لنفسي بما أن الملك تحدث معي وعني، فهذا يعني بالضرورة مسؤولية مضاعفة. وبالتالي، «يتعين علي أن أركز، وأعد نفسي جيدا». في تلك الأثناء، ألم يخصك الملك بأي حديث جانبي؟ كلا، لم يفعل. كنا نقف أمامه في صف نصف دائري، وأمامه ميكروفون يتحدث من خلاله. كان معنا، حينها، سي عبد اللطيف السملالي، وزير الشباب والرياضة، رحمه الله، ومحمد جسوس، الكاتب العام للوزارة. تذكرتهما وحدهما، لأنني، في ذلك العمر، حتى وإن كنت بتجربة متوسطة، فلم أكن أعرف بالضبط ما تعنيه اللجنة الوطنية الأولمبية، والجامعة الملكية لألعاب القوى، وغيرها. فكل ما في الأمر أنني كنت، مثل آخرين، أحب رياضة معينة، وأتدرب، ولدي رغبة في أن أبرز فيها. في وقت لاحق، وبدافع من روح المعرفة والاكتشاف، بدأت أدقق في الأمور وأفهم طبيعة الأشياء ومفهوم المؤسسات. بدأت أقول لنفسي: «أنا مشيت جريت تمة، ولكن، شكون داني تمة باش جريت تمة؟ إذن، ولابد شي واحد داني لتمة؟». وحين بدأت البحث، فهمت أن الأمر يتعلق بهيئات منظمة تسهر على كل صغيرة وكبيرة. كنت قد أتيت، حينها، من الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث كنت تدرسين في جامعة إيوا. وقضيت فترة إعدادية بالمغرب، قبل التوجه نحو لوس أنجلس مع الوفد المغربي. ترى، كيف مرت فترة الاستعداد في المغرب؟ كنت ذهبت إلى الولاياتالمتحدة إما في دجنبر 1983 أو يناير 1984. وكنت قد أجريت كل استعداداتي في المغرب، ولم يكن ينقصني سوى بعض الاحتكاك. فلم يكن معي، هنا في المغرب، مئات الفتيات من مستواي، أو أفضل منه، أو أقل بعض الشيء. فقد كنت باستمرار الأولى، حتى إنني، في بعض الأحيان، حين أراني منفردة بالمركز الأول، أخفف من سرعتي، تفاديا للإجهاد. هناك، في الولاياتالمتحدة، كان معي المئات، بل قل الآلاف من الفتيات اللواتي يفقنني في المستوى، ما جعل احتكاكي بهن شديدا للغاية. ولئن كنت أجريت معظم تداريبي بالمغرب، فقد صقلت استعداداتي بأمريكا، حيث المنافسة القوية يومية، ما يجعلك تتحسن إلى أن تحطم رقمك الخاص. وفي تلك الأثناء بالتحديد تلقيت نبأ مفجعا، يتمثل في وفاة والدي رحمه الله. كان ظرفا عصيبا جدا. أي نعم، فقد توفي والدي، رحمه الله، أسبوعا واحدا بعد سفري. غادرت يوم السبت، وتوفي هو يوم السبت الموالي. وهكذا، وجدتني مجبرة على العودة إلى المغرب. لم يكن أمامي أي اختيار. صحيح أن الوزير السملالي ورئيس الجامعة طلبا من أسرتي ألا تبلغني بالخبر المفجع، على أساس أنني أحقق لوالدي رغبته في إتمام دراستي. غير أن الأسرة لم تستطع أن تفعل، إذ أوفدت إلي أخي شهرا من بعد ليخبرني بما حدث، في وقت كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل الأسرع هي «التليغرام». كيف كان رد فعل مدربيك في أمريكا حين قررت العودة إلى المغرب؟ كان لدي مدربان؛ أحدهما يهودي والآخر مسيحي، وكنت بينهما مسلمة. وحين قررت المغادرة، اجتمعا بي، وقالا لي: «كلنا لدينا إله واحد، وكلنا لدينا إيمان قوي. أما والدك فقد توفي، بل ودفن قبل أسابيع متعددة. فإن كانت لديك رغبة ملحة في أن تصلي إلى مرادك، وتحققي حلم أبيك المتوفى؛ المتمثل في بلوغ الألعاب الأولمبية، وتكسبي الميدالية، فابقي معنا هنا. أما إن قررت العودة، فستضيع عليك المنحة، وسيتبخر حلمك. لك الاختيار إذن». ما كان ردك عليهما؟ قلت لهما رجاء أعطياني جوازي وتذكرة السفر، وردا علي بأنهما موجودان في الخزانة، وأنهما رهن إشارتي، شريطة أن أفكر لبعض الوقت. وحين فعلت، وعدت إليهما، ثم رجعا ليدققا في نقطي، إذ ساعداني كثيرا، فلم تكن الإنجليزية هي نقطة قوتي في الدراسة، فيما كانت نقطي في بقية المواد تتحسن باستمرار، أكدا لي أنه سيكون حراما في حقي هدر الفرصة وهدم كل ما بنيته بكدي وعرقي، وقالا: «من الأفضل لك أن تظلي هنا. نحن على يقين أنك ستفاجئين العالم». أليس ذلك بالضبط ما كان يريده الوالد رحمه الله؟ تماما. تماما، هو كذلك. ورحمهما الله أيضا، لأنهما قدما لي الكثير من المساعدة كي أتعلم وأبرز. بالنتيجة، كيف كانت الفترة التدريبية في المغرب؟ عدت في يونيو على ما أظن، فإذا بنا، في البيت، نقيم جنازة ثانية للوالد رحمه الله. فما إن وصلت إلى المغرب حتى تصاعد الشجن، وتذكرت الأسرة المأساة، وتعانقنا، وبكينا بحرقة. ومع ذلك، فقد كان يتعين علي أن أركز على تداريبي. وبما أن مدربيَّ ظلا في أمريكا، فيما المدرب الفرنسي، جان فرانسوا كوكار، الذي كان يشرف علي، غادر بدوره، فقد تدربت وفق البرنامج الذي وضعه لي مدرباي مدة أسبوعين تقريبا. ثم التحقت بالوفد المغربي في شهر يوليوز، حيث كان الاستقبال الملكي، ثم السفر إلى لوس أنجلس. هذا يعني أنك أجريت تداريبك منفردة، أليس كذلك؟ نعم. فحين تصل إلى مستوى معين من النضج، تصبح «عينك ميزانك». فأنت تعرف جسدك جيدا، وتستشعر المستويات التي يتعين الوصول إليها، وتحس حين تصل إليها أو العكس. أي نعم، للمدرب مكانته التي لا تعوض، حيث يجسد الأب والزميل والصديق، وبنظرة واحدة فقط يستشعر ما تحس به، مثلما تستشعر ما يريده منك، غير أنه لم يكن لدي خيار آخر. وكانت الدورة الأولمبية، حينها، ستشهد ظهور سباقات نسوية جديدة، ضمنها على الخصوص سباق 400 متر حواجز والقفز بالزانة ورمي المطرقة والماراثون. فقد كان المنظمون يعتقدون، سابقا، أن النساء لا يمكنهن المشاركة في هذه الأنواع الرياضية، وإثر نقاش مستفيض سبق دورة لوس أنجلس، تقرر السماح للرياضيات بأن يشاركن في سباقي 400 متر حواجز والماراثون. نوال: كوكاكولا مجانا في الصنابير بما أنها كانت المرة الأولى التي ستشاركين في دورة أولمبية، ألم يكن عالمها مدهشا بالنسبة إلى شابة مثلك؟ كان مدهشا جدا. فرغم معرفتي بالسباق، ومشاركتي في عدة منافسات، غير أنني أصبت بالدهشة حال وصولي إلى القرية الأولمبية. فماذا عساي أقول؟ لقد كانت عالما وسط العالم. فحتى مشروب «كوكاكولا»، الذي عادة ما نقتنيه بمقابل، كنت تجد صنابير مبثوثة تتيحه لك بالمجان. فأجدني أسأل نفسي: «ما هذا؟ غير معقول؟ إذن، خذ ما اشتهيت، واشرب، ثم انصرف». وكذلك الشأن بالنسبة إلى الدراجات، التي وضعت في كل جانب، ليستعملها من يشاء بالمجان. أما إن أردت التنقل من رواق إلى آخر، فكأنك تغادر حيا من أحياء الدارالبيضاء إلى حي ثان. ثم إن هناك مزيجا من الأجناس، يعيشون في جو عجيب ومثير من المحبة والتآخي، بلا ضغينة ولا مشاكل. عالم عجيب حقا. من حسن حظي أنني عدت، ثلاثين سنة فيما بعد؛ أي سنة 2017، إلى الرواق الذي كنت أقطن به في لوس أنجلس، فضلا عن الغرفة التي نمت فيها. ولك أن تتخيل مشاعري. شيء لا يصدق. كانت زيارتي الثانية ضمن الوفد الذي عهد إليه النظر في ملف ترشح لوس أنجلس لاحتضان أولمبياد 2028 (وصلنا إلى حل بأن أعطينا دورة 2024 لباريس، ودورة 2028 للوس أنجلس). كيف شعرت وأنت تعودين، بعد كل هذا الزمن، إلى المكان الذي عشت فيه حكاية أول ميدالية ذهبية أولمبية في تاريخ الرياضة المغربية؟ «منين شفت دكشي.. والله إلى دخت». قلت لنفسي: «مستحيل». لقد زرت الغرفة التي أقمت فيها. عجيب. عجيب. وشاهدت حتى الملعب الذي جرينا فيه. ورغم أنهم أزالوا الحلبة، وبدلت بملعب لكرة القدم الأمريكية، فإنهم سيعيدون الأشياء كما كانت لإجراء الألعاب الأولمبية لسنة 2028.