سيظل أولمبياد لوس أنجلوس 1984 عالقا في ذاكرة البطلة السابقة نوال المتوكل والعضو الحالي في اللجنة الأولمبية الدولية، فقد فاجأت العالم وهي تحرز ذهبية سباق 400 متر حواجز وتصبح بالتالي أول بطلة عربية وإفريقية ومسلمة تتوج بالذهب الأولمبي لتحول المستحيل إلى ممكن. في الحوار التالي الذي أجرته معها»المساء» تعود المتوكل بالذاكرة إلى لحظة التتويج الأولمبي، وتحكي بالتفصيل عن تتويج لن ينمحي من ذاكرتها. - ما الذي تتذكره نوال المتوكل من مشاركتها في أولمبياد لوس أنجلوس 1984؟ مازلت أتذكر بأدق التفاصيل مشاركتي في أولمبياد لوس أنجلوس لسنة 1984، خصوصا أن هذه المشاركة غيرت مجرى حياتي. المشاركة في لوس أنجلوس كانت بمثابة حلم بالنسبة لي، مثلما كانت حلما أيضا لبقية الرياضيين المغاربة المشاركين أنذاك. كنت قد عدت للتو من الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث كنت أدرس لأقضي الصيف بالمغرب، وسيرافق ذلك انضمامي إلى وفد المنتخب الوطني الذي سيشارك في الأولمبياد. كنت الفتاة الوحيدة في الوفد المغربي الذي ضم 28 مشاركا. أتذكر أن الراحل الحسن الثاني لما استقبل وفد المغرب المتوجه إلى لوس أنجلوس، كان يخاطبنا ويتحدث عن إنجاز قد يصنعه بطل أو بطلة، فرغم أنني كنت العنصر النسوي الوحيد الموجود، فقد انتبه لوجود فتاة رياضية نحيفة، وكنت أحس كما لو أن كلامه موجه لي أنا بالتحديد. - هل كنت تراهنين على التتويج في الأولمبياد قبل سفرك إلى لوس أنجلوس؟ لم يكن هذا الأمر يدور في ذهني إطلاقا، لكنني كنت أتوق لأظهر بوجه مشرف، وأحلم مثل بقية الرياضيين المشاركين، لكن مع توالي الأدوار بدأ الحلم يكبر وبدأت أطمح لشيء ما، كنت أشعر بالرعب وكان الحاج نودير رئيس جامعة ألعاب القوى يحاول أن يخصني بالرعاية، بل إنني أقمت بجناح خاص لوحدي بما أنني كنت الفتاة الوحيدة في الوفد المغربي. ومع توالي الأدوار سيبدأ مدربي الأمريكيين بات مونيهن وفان رينكو، يحفزانني ويسعيان لتقوية جاهزيتي البدنية والذهنية، وأتذكر أنهما كانا يقولان لي إنك تركضين برشاقة وقوة وتقفزين الحواجز بدقة، وهي الأمور المطلوبة في عداءة الحواجز، ولديك حظ كبير للتتويج، كما حرصا على الحصول على تسجيلات للسباقات التي كنت أخوضها من أجل دراستها ومعرفة نقاط القوة والضعف، وهو الأمر نفسه الذي قمنا به في سباقات بقية العداءات المتنافسات. - وما الذي عزز فكرة فوزك بنهائي 400 متر حواجز؟ في ذلك الوقت لم أكن أعرف ما معنى الاستعداد النفسي لكن مدربي الأمريكيين طلبا مني قبل السباق أن أجلس فوق كرسي، وأن أردد النشيد الوطني جهرا وأن أقول أنا الأفضل، أنا رقم واحد، أنا التي ستفوز حتى يسمعني كل من بالقرية الأولمبية، كانا يقولان لي إن ما أعيشه الآن سيحصل بعد نهاية السباق وسأصعد فوق منصة التتويج وسيتم عزف النشيد الوطني، وأنني سأقطف ثمار سنوات من الجد والاجتهاد. كنت أجد صعوبة كبيرة في أن أردد ما يطلبانه مني، كنت أشعر بالخجل وأنا التي لا يتجاوز وزني 43 كيلوغرام. لقد كانا يقوماني بتهيئتي نفسيا لخوض السباق دون أدري ذلك. - كيف عشت ليلة سباق النهائي؟ ليلة السباق النهائي، لم أنم تقريبا، وكنت أعيش الكثير من الهواجس والكوابيس، فبما أنني عداءة في سباق للحواجز، هو 400 متر الذي برمج لأول مرة في أولمبياد لوس أنجلوس، فإنني كنت أشاهد نفسي أسير ببطء أو أتعثر لدى اجتياز الحواجز، وفي أحيان أخرى أجد نفسي وقد انطلقت مرتين بشكل خاطئ، مما يعني الإقصاء، أو كنت أشاهد نفسي وأنا أسقط في بئر أو غار، علما أنه من المفروض ليلة السباق أن ينام العداء بشكل جيد لأن قلة النوم أو غيابه يقلل من العطاء. كنت أستيقظ وأنا أتصبب عرقا وأبكي في الحلم، وعندما كنت أضع يدي على عيني لم أكن أجد أثرا للدموع. - ثم تحول الحلم إلى حقيقة؟ فعلا تحول الحلم إلى حقيقة، وما بدا مستحيلا صار ممكنا، ومع ذلك لم أستطع أن أخرج من جلباب الحلم، فحتى وأنا أبلغ خط الوصول في المركز الأول، وأقطع المضمار حيث سلمني الراحل عبد اللطيف السملالي، الذي كان أنذاك وزيرا للشباب والرياضة العلم الوطني رفقة زوجته لأطوف به أرضية الملعب، وأحظى بتصفيق الجمهور الحاضر، فإنني لم أصدق وكنت أستفسره هل فعلا فزت، وهل شاهد المغاربة السباق، ظل يحاول أن يهدئ من روعي قبل أن أبدأ جولتي الشرفية حول الملعب. - ماذا حدث بعد ذلك؟ كان علي أن أخضع لفحص المنشطات الذي يجريه جميع المحتلين للمراكز الثلاث الأولى في المسابقات، حينها اتصل الراحل الحسن الثاني وأبلغت بأنه يود الحديث معي، بينما كان الطبيب يرافقني لإجراء الفحوص، علما أن مذيع الملعب ظل يشير إلى أن ملك المغرب سيتحدث مع نوال المتوكل. - ماذا قال لك الراحل الحسن الثاني؟ بداية لم أكن مصدقة أنني سأتحدث مع الملك، وأتذكر أنه قال لي «تبارك الله عليك، إن المغاربة سعيدون بإنجازك وقد سهرنا وفرحنا وعشنا معك كل لحظة من السباق». كان يتحدث معي بحضور الراحل السملالي الذي كان يتابع ما يجري باهتمام، أما العدائتين المحتلتين للمركزين الأول والثاني وهما أمريكية ورومانية، فقد دخلا في حديث معي وظلا يمنيان النفس بأن يحدثهما رئيسي بلديهما رونالد ريغان وتشاوسيكو. في الوقت الذي كنت أجري فحص المنشطات، كان جيش من الصحفيين ينتظر من أجل أخذ تصريحات مني، ظل الراحل السملالي يؤكد لهم أنه مستعد للحديث معهم بدلا مني، لكنهم كانوا مصرين على الحديث معي، وأنا المرتبكة والتي لم تكن تعتقد أنها ستعيش مثل هذه اللحظة وستواجه الصحفيين، خرجت من القاعة، وقالوا لي هل أنت في حاجة إلى مترجم، قلت لهم لا، أتذكر أن أحدهم قال لي هل أنت من موناكو فرديت عليه أنا من المغرب، بينما آخرون يسألون عن موقع المغرب في خريطة العالم، ومنهم من يتساءل مستغربا أنني من المفروض أن أكون مرتدية الحجاب بدل أن أركض ب»الشورت»، وآخر يسأل عن عائلتي، فلما أجبتهم أن أشقائي الخمسة ووالدي ووالدتي كلهم رياضيون كان استغرابهم يزيد، فالمغرب بالنسبة لهم كان عبارة عن صحراء وخيام وجمال فقط. لم يتوقف صخب الاحتفالات، بل إن الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز رئيس اللجان الأولمبية العربية أنذاك نظم حفلا كبيرا على شرفي وشرف سعيد عويطة الذي توج بذهبية 5000 متر في أولمبياد لوس أنجلوس، ووجه الدعوة لجميع الوفود العربية وأتذكر أنه قال إن الفوز ليس للمغرب فقط بل إنه لكل العرب، وقد ووضعت رهن إشارتي سيارة ليموزين لأتوجه بها إلى مقر الحفل. - رغم التتويج بالذهب الأولمبي واختتام مشاركتك بقيت مقيمة في القرية الأولمبية؟ طلب مني الراحل عبد اللطيف السملالي أن أنتقل للإقامة بالفندق الذي كان يتواجد به، لكنني التمست منه أن أبقى بالقرية الأولمبية إلى جانب زملائي في الوفد المغربي المشارك في الأولمبياد، لأنني كنت مندمجة معهم، ولم يكن مقوبلا بالنسبة لي بعد التتيوج أن أتركهم ولا أقتسم معهم لحظة الفوز. وفي المقابل برمج لي السملالي لي لقاء في الإذاعة الوطنية مع المنشط الإذاعي الراحل اكديرة، حيث قال لي إن المغاربة يرغبون في الاستماع إليك. - بعد ذلك ستعودين إلى المغرب، هل يمكن أن تحكي لنا تفاصيل ما حدث؟ كان الراحل السملالي يرغب في أن يبقيني قريبة منه رفقة سعيد عويطة لأنه كان يحضر لنا مفاجأة في المغرب، لم يرغب في إخبارنا بها في ذلك الوقت، لذلك شديت الرحال رفقته وزوجته الحاجة من لوس أنجلوس عبر واشنطن ثم حطينا الرحال في باريس، حيث اقتنت لي زوجة السملالي فستانا حتى أظهر أنيقة ثم واصلنا الرحلة إلى الدارالبيضاء، علما أن عويطة كان توجه إلى إيطاليا بعد حصوله على ذهبية 5000 متر، وهو ما فرض على الراحل السملالي أن يبحث عنه بكل الطرق ليكون معنا، وهو الذي كان مطالبا أن يعودا بنا معا. - ماذا حدث لحظة وصولكما إلى الدارالبيضاء؟ ما وجدناه في المطار كان مدهشا، لقد خصص لنا المغاربة استقبالا أسطوريا وبدا كما لو أن المغرب كله حج إلى مطار محمد الخامس، كانت مفاجأة سارة لم يرغب الراحل السملالي في أن يكشفها لنا ونحن في الطريق إلى المغرب، بل تركنا نعيشها كماهي. لقد وجدنا في استقبالنا الأمير سيدي محمد الذي كان وقتها وليا للعهد والأميرة للامريم ووزير الداخلية أنذاك ادريس البصري، كنت أشاهد عائلتي لكنني لم أتمكن من تحيتهم أمام تلك الحشود المتدفقة، ثم قمنا بجولة عبر سيارة مكشوفة في شارع الجيش الملكي. أما في الحي الذي كنت أقطن فيه فكانت هناك حكاية أخرى، فقد تم فرشه بالزرابي، وكنت أحس بنفسي أشبه بأميرة. - ما هي خصوصيات سباق 400 متر حواجز؟ إنه سباق دقيق جدا، خصوصا أن مابين الحاجز والأخر مسافة 35 متر، على العداء أن يجتازها بدقة دون أن يلمس الحاجز حتى لا يتأخر، وأنا كانت قامتي قصيرة وكان علي أن أقفز بالرجل اليسرى خصوصا في الحواجز الأولى حتى أدفع بجسدي داخل الممر المخصص لي. - ركزت كثيرا على دور مدربيك في الفوز بلوس أنجلوس؟ إن دور محيط الرياضي مهم في تألقه، فالمدرب على عاتقه مهمة كبيرة، إذ يجب أن يمنحه الثقة الكاملة وأن يعرف كيف يتعامل معه، ويساهم في جاهزيته بدينا ومعنويا لمواجهة كل الصعوبات. إنه يرافق الرياضي أكثر من عائلته ويعيش معه أقوى اللحظات، المدرب إذا كان في المستوى فإنه يحمي الرياضي ويدفعه إلى العطاء، إذ عليه أن يعرف كيف يخفف من توتره وخوفه، وحتى إذا كان المدرب متخوفا فإن عليه أن لا يظهر ذلك للرياضي الذي يشرف عليه. أيضا الأسرة وأقصد الزوج إذا كانت العداءة متزوجة أو الأب أو الأخ والأخت، هؤلاء بدورهم يلعبون دورا مهما في تألق الرياضي. أنا أعرف حجم الضغط الذي يعيشه اليوم الرياضيون المغاربة الذين سيشاركون في أولمبياد لندن لأنني مررت من هذه التجربة، فضغوطا هائلة تقع على عاتقهم اليوم، الله وحده يعلم ما يعيشونه من هواجس، خصوصا مع الحديث عن أنهم استفادوا من دعم مادي في إطار لجنة رياضيي الصفوة التي أنشئت بعد المناظرة الوطنية الثانية للرياضة التي جرت بالصخيرات. - كيف ترين حظوظ المغرب في الأولمبياد؟ لم يسبق للرياضيين المغاربة أن استفادوا من الدعم المادي للاستعداد مثل ما هو الحال اليوم، فقد كان هناك دعم ملكي مهم من خلال رصد 33 مليار سنتيم. شخصيا أعتقد أن هناك حظوظا في ألعاب القوى مع مريم العلوي السلسولي وعبد العاطي إيكيدير وفي الملاكمة والتيكواندو. - لكن هل يكفي الدعم المادي لصناعة أبطال قادرين على التتويج؟ الدعم المادي مهم، إنه يوفر الإمكانيات للرياضي ليخوض تجمعات تدرييبية وليستعد في أفضل الظروف، لكن إذا لم تكن للرياضي قوة ذهنية كبيرة للتألق من الصعب أن ينجح، ففي الأولمبياد قد يتوه العداء في 80 ألف متفرج الذين سيملؤون ملعب لندن، وقد يبدأ في طرح تساؤلات مع نفسه، إذا لم تكن لديه المناعة لمواجهة هذا الحشد من الصعب أن يتألق. النجاح لا يصنعه الرياضي لوحده وإنما محيط البطل والمدلك والمؤطر والطبيب وغيرهم، وأن يكون لدى الرياضي حبا للمسؤولية دون أن يسعى للبحث عن أعذار مسبقة.