على الساعة الحادية عشرة ليلا، ضرب مجموعة من الحقوقيون موعدا للقاء ثم الانطلاق إلى مدينة تيفلت، وتحديدا إلى سجنها المحلي، فالليلة ليلة العشرين من يوليوز، ليلة خروج الصحافي حميد المهداوي من سجنه الذي دام ثلاث سنوات، لا حديث في الطريق سوى عن موعد الخروج، قد يكون في منتصف الليل، اللحظة التي تقف فيها عقارب الزمن عند السنة الثالثة، لتنتهي دورة السجن وتبدأ أخرى من على عتبة بابه، وقد يتأخر الموعد حتى الصباح، ربما في الثانية صباحا أو السادسة، هكذا يتحدث من خبروا استقبال صحافيين أو نشطاء معتقلين، يتحدثون تارة بلغة القانون، وتارة عن «حيل المخزن» كي لا يُستقبل الخارجون من السجن استقبال المنتصرين.. والمهداوي مناسبة لسبر حكايات معتقلين سابقين وتعامل السلطات ومآلات أحلام التغيير. إلى جانب من شدوا الرحال إلى السجن، اختار آخرون مرافقتهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فانتشرت التدوينات المهنئة للمهداوي وعائلته، والأماني بالفرج القريب لباقي الصحافيين، خاصة أنه يوم مشهود، ففي التاسعة صباحا، يمثل الصحافي عمر الراضي أمام قاضي التحقيق للمرة السابعة بمقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدارالبيضاء، وفي المدينة نفسها بمحكمة الاستئناف، يجلس الصحافي سليمان الريسوني قبالة قاضي التحقيق في الجلسة الأولى من التحقيق التفصيلي بعدما أنهى 59 يوما من الاعتقال الاحتياطي. يصل الصحافيون أولا إلى باب السجن قادمين من الرباط، ثم تصل وفود من الحقوقيين المتضامنين مع المهداوي؛ نشطاء من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وبعض أعضاء جماعة العدل والإحسان، وعبد الرزاق بوغنبور، الرئيس السابق للعصبة المغربية لحقوق الإنسان، ومنسق «لجنة التضامن مع الصحافي سليمان الريسوني»، والمؤرخ المعطي منجب، ورئيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان، عادل تشيكيطو، وأفراد من عائلة المهداوي... فرح ومستملحات عن الدبابة التي سجن بسببها الصحافي، ولا حديث سوى عن محاكمات الصحافيين في هذا اليوم، دون أن يخفت أمل، وإن كان ضعيفا، في أن تطوى صفحة قضية الريسوني وقضية الراضي في اليوم الذي تنتهي فيه محنة المهداوي. في انتظار أن تفتح أبواب السجن عقارب الساعة تجاوزت منتصف الليل وباب السجن لايزال موصدا، المهداوي لم يخرج بعد. حلت الثانية صباحا ولا ظل يلوح في الأفق الذي تمتد إليه عيون المنتظرين. اتصالات وتواصل مع السائلين عن لحظة الخروج، يبدو أن الجميع استسلم أنها ليلة سهر قبالة السجن حتى ما بعد مطلع الفجر. حوالي الثالثة والنصف صباحا، تحضر زوجة المهداوي، بشرى خنشافي، وطفلاها أمام باب السجن، وبفرح ينط من العيون تقول ل«أخبار اليوم»: «شعوري لا يوصف، فرح عارم بعودة المهداوي، مرت ثلاث سنوات محملة بالآلام والمعاناة على جميع المستويات، لكن فرحة هذا اليوم أنستنا كل شيء، وكل الحب للشعب المغربي العظيم على مؤازرته ودعمه للصحافي حميد المهداوي». تدق السادسة صباحا، ويزداد عدد الوافدين على الساحة المحاذية للسجن، ويقدم النشطاء الحقوقيون وعائلة الصحافي تصريحاتهم لوسائل الإعلام التي حضرت لتغطية حدث خروج صحافي تابع قصة اعتقاله الكثيرون، وتبنت منظمات حقوقية دولية قضيته، وضمنها منظمة «مراسلون بلا حدود» التي تعنى بحرية الصحافة والتعبير، حيث واكبت اعتقاله بطلبات الإفراج عنه، معتبرة أن اعتقاله مرتبط بتغطيته احتجاجات حراك الريف وبمزاولته مهنته، إلى جانب ستة صحافيين مواطنين، ضمنهم ربيع الأبلق المحكوم بخمس سنوات سجنا نافذا. ضباب كثيف يغطي الساحة المجاورة للسجن، وفجأة يتحرك الواقفون المنتظرون صوب بوابة السجن، فحميد المهداوي يسرع الخطى وسط الضباب خارجا من سجنه، يسرع نحوه طفلاه أولا وزوجته، عناق طويل وفرح يعلو ملامح كل الحاضرين، وتعلو شعارات «صحافي وراسي مرفوع ما مشري ما مبيوع»، وسط تبادل للتحايا مع الحقوقيين والزملاء الصحافيين وأصدقاء وعائلة المهداوي على إيقاع زغاريد تعلن الفرح. «أشكركم جميعا، صحافيات وصحافيين وجميع الموقع الإلكترونية، كان الصحافيون سندا ما بعده سند، خاصة الصحافة الإلكترونية، وفي الصحافة الورقية تحية عالية ل«أخبار اليوم» أحب من أحب وكره من كره، كانت سندا لي طيلة فترة الاعتقال»، يقول حميد المهداوي في أولى كلماته خارج السجن، مضيفا: «أنا ضمير الشعب، الصحافي ضمير المجتمع، فأي شيء تعرضت له تعرض له الشعب المغربي.. أشكر كل الحقوقيين بلا حدود، كانوا سندا لي»، ولم يستطع المهداوي رغم تردده في الحديث أن يكتم عتابه بل ونقده لمن تخلف عن دعمه قائلا: «مع كل الأسف، فالمجلس الوطني لحقوق الإنسان أخلف موعده مع التاريخ، ولن أقول أكثر من ذلك، كما أخلفته النقابة الوطنية للصحافة، آلمني موقف عبد الله البقالي وآلمني موقف يونس مجاهد، أنا زميلهم، أنا صحافي، لم يكونوا في المستوى، لم يكن البقالي جيدا في تعامله معي، زارني في عكاشة، وفي الأخير تخلى عني، مؤلم موقف عبد الله البقالي، في الأخير خرجت من السجن، لكن التاريخ يسجل، والتاريخ لا يرحم، لم أسئ للبلد أبدا، ربما لم أكن موفقا في بعض التعابير، لكن أن يكون هذا هو الثمن، ثلاث سنوات، 36 شهرا دون شفعة.. إلى حد الساعة لا أعرف لماذا اعتُقلت. كثيرا ما كنت أتساءل وأنا وحدي في الغرفة: أين الذي اتصل بي؟ أين هو هذا الشخص؟ قال لي الوكيل العام: ‘‘اطمئن السي المهداوي سوف نحضر البعزاتي''، وقد مرت الآن ثلاث سنوات، لا أريد الدخول في تفاصيل في ظل هذا الوضع الذي تمر منه البلاد.. تأكدوا أني لا أتحدى أحدا، فأنا إنسان بسيط في هذا البلد، فقط أومن بأشياء، وأريد مساعدة الشرفاء في هذا البلد لنرى مغربا جميلا، ليست لدي أجندة ولا شيء، دخلت السجن رجلا وخرجت منه وأنا رجل ونصف.. وأتمنى أن يتوقف نزيف اعتقال الصحافيين، والمعتقلين السياسيين جميعا، هذا البلد لا يتحمل المزيد من الجراح». من «الصياح» إلى «الدبابة».. تهم دخلت التاريخ اعتقل حميد المهداوي ليلة العشرين من يوليوز سنة 2017 أثناء تغطيته للمسيرة الاحتجاجية التي دعا إليها نشطاء حراك الريف بمدينة الحسيمة، وكانت مسيرة في ظرفية عالية التوتر بين الحراكيين والسلطة بعدما بدأت موجة الاعتقالات في ماي من السنة نفسها، وجرى اعتقال عدد كبير من زعماء الحراك. كانت مسيرة للرد على اتهام الحكومة لهم بالانفصال في بلاغ رسمي وقعته أحزاب الأغلبية جميعها، ومنعتها وزارة الداخلية ببلاغ رسمي، ومع ذلك توجه العديدون نحو الحسيمة من مدن عدة، بعضهم وصل، وبعضهم بقي على أبوابها بعدما وضعت السلطات حواجز تحول دون الوصول إليها. انطلقت المسيرة رغم المنع، وتدخلت السلطات لتفريق المتظاهرين مستعملة القنابل المسيلة للدموع، والتقطت كاميرات الصحافيين وكاميرات هواتف المواطنين لحظات عنف تحدثت عنها فيما بعد منظمات حقوقية محلية ودولية. كان المهداوي هناك يتحلق حوله مجموعة من المواطنين قبل أن يقع توقيفه بتهمة «التحريض على المشاركة في تظاهرة غير مرخص لها»، وعادت زوجته وابناه إلى البيت دون فرد من الأسرة. قُدِّم حميد المهداوي للمحاكمة بمحكمة الحسيمة، وحُكم عليه بأربعة أشهر حبسا نافذا، لتضاعف أربع مرات في الاستئناف وتصير عاما كاملا، ليجد نفسه بسجن عكاشة بالدارالبيضاء، ليجري التحقيق معه بشأن تهمة جديدة تتعلق ب«عدم التبليغ عن جناية تمس أمن الدولة»، وهي القضية التي صارت معروفة بالدبابة والتسجيل الصوتي لشخص لم يجر توقيفه خارج المغرب. عقدت جلسات وجلسات، وضم ملف المهداوي إلى ملف معتقلي حراك الريف، ثم فصل عنه ثم ضُم إليه من جديد. كانت جلسات معتقلي الحراك، وعددهم 57 آنذاك، تنتهي لتبدأ جلسات محكمة المهداوي، التي لم تخل يوما من تشنج مع رئيس الجلسة الذي كان يطرد المهداوي من الجلسة كلما صاح هذا الأخير في وجه المحكمة ببراءته.. مرافعات طويلة وقصص مثيرة نسجت حول التسجيل الصوتي الغامض الذي قدم دليلا لإدانة المهداوي، وحول دبابة كانت ستدخل من الحدود، لم يبلغ عنها المهداوي، وفق الإفادة الرسمية.. حكم على المهداوي بثلاث سنوات حبسا في هذه القضية، وجرى تأكيد الحكم في الاستئناف حينما تأكدت أحكام معتقلي حراك الريف الثقيلة، وخاض الدفاع معركة أخرى من أجل ضم العقوبتين كي تصير ثلاث سنوات حصيلة محاكمتين وتهمتين، وانتقل المهداوي من عكاشة إلى سجن تيفلت، الذي يخرج منه اليوم بعدما دخله من الحسيمة. «رد الاعتبار للمهداوي هو رد اعتبار لهيبة القضاء» «أنا سعيد جدا لمعانقة حميد المهداوي الحرية، وأتمنى أن تكون مناسبة لإغلاق الملفات العالقة المتعلقة بحرية الصحافة والتعبير. أتمنى أن تكون لحظة تأمل من القضاء والدولة لتنفيس الأجواء السياسية، والإفراج عن معتقلي حراك الريف، وإيقاف متابعات من هم في حالة سراح كمجموعة المعطي منجب والنشطاء الستة، وإيقاف الملفات المفتوحة لكل من الصحافي سليمان الريسوني والصحافي عمر الراضي، من أجل خلق أجواء جديدة، وتجاوز هذا الاحتقان الذي خلقه هذا النوع من الملفات»، يقول محمد المسعودي، محامي المهداوي، مضيفا أن «ملف المهداوي كانت فيه خروقات قانونية خطيرة تستوجب من وزير العدل تحريك مسطرة المراجعة، وهي مسطرة خاصة، وقد تحدثنا عن تلك الخروقات في إبانها، لكن، مع الأسف، لم يتجاوب معنا القضاء. ورغم أن المهداوي قضى مدة محكوميته، فلاتزال هناك الفرصة لإعادة النظر ومراجعة هذا الحكم عبر الإمكانيات التي تسمح بها المسطرة الجنائية، وكذلك المواثيق الدولية، وضمنها رد الاعتبار، وهو رد اعتبار ليس فقط للمهداوي، وإنما لهيبة القضاء وهيبة الدولة المغربية»، يختم المحامي الذي واكب جلسات محاكمات المهداوي ومعتقلي حراك الريف، قبل أن يصير معتقلا على ذمة قضية قال إنه يمتثل للقانون فيها، وقد أنهى سنة من الحبس، وهي مدة محكوميته، وزار المهداوي مباشرة بعد خروجه والزميل سليمان الريسوني بسجن عكاشة. يهنأ المسعودي المهداوي على استعادة حريته، ليرافق الريسوني في جلسة التحقيق التفصيلي الأولى قادما إليها من سجن عين البرجة بالدارالبيضاء. المشاعر تغلب الحذر من يعرف المهداوي يلمس أن الرجل لا يستطيع أن يوقف كلاما حارقا بحلقه، وقف أزيد من نصف ساعة بعد خروجه لتبادل التحايا، وفي تصريحه الأول، فاض منه كلام كان يود لجمه، كما يعبر هو عن ذلك صراحة. شكر من أراد، وعاتب علانية من قال إنهم تخلوا عنه في محنته، وفي كل مرة يعانق شخصا من الحاضرين ويشكره على دعمه رغم تردده بداية نظرا إلى ظروف الوباء وما تفرضه من احترازات، لكن مشاعر اللحظة غلبت كوابح الحيطة. «حضرنا هذا اليوم من أجل استقبال الصحافي الحر حميد المهداوي، الذي قضى ثلاث سنوات ظلما وعدوانا في السجن بتهمة خيالية، هو الآن حر بيننا رغم المعاناة النفسية التي قد تؤثر في مساره الحياتي. نأمل أن تتوقف الدولة المغربية عن محاكمة الصحافيين المستقلين والنشطاء الحقوقيين، لأن هذه الممارسة تسيء إلى مشروع دولة الحق والقانون الذي نتوخاه. مع الأسف، خروج الصحافي المهداوي هذا اليوم يزامن انطلاق التحقيق التفصيلي مع الصحافي المتميز سليمان الريسوني بشبه تهمة مخدومة وظف فيها القضاء من أجل إخراس هذا الصوت، والقضاء على آخر قلعة صحافية مستقلة، كذلك يزامن هذا اليوم الاستدعاء السابع للصحافي عمر الراضي بمشروع تهمة تتبناها الحكومة»، يقول عبد الرزاق بوغنبور، الرئيس السابق لائتلاف هيئات حقوق الإنسان، مضيفا: «مع هذه المضايقات والمتابعات، نجد الصحافة المتخصصة في التشهير واستهداف أعراض الناس تنهش في الأعراض، وتتكلم في أدق التفاصيل التي تروج في التحقيقات التي تكتسي طابعا سريا، بل أكثر من ذلك، هي التي أصبحت تضع صكوك الاتهام، وعنها كذلك تصدر الأحكام قبل أن ينطق بها القضاء. الإفراج عن المهداوي يجب أن يكون مرحلة جديدة في تاريخ الصحافة في المغرب، مرحلة تتوفر فيها ضمانات للصحافيين من أجل تمكينهم من التعبير عن آرائهم بكل حرية، من منطلق أنه لا يمكن تحصين هذه المهنة دون توفير هذه الضمانات»، يختم بوغنبور تصريحه ل«أخبار اليوم». محمد السالمي، رئيس الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان، كان بدوره حاضرا، وقال ل«أخبار اليوم»: «نحن هنا للتعبير عن تضامننا مع الصحافي حميد المهداوي. هذا التضامن الذي عبرنا عنه منذ لحظة الاعتقال وخلال أطوار المحاكمة، نعبر عنه في هذه اللحظة التاريخية، آملين ألا تتكرر اعتقالات الصحافيين والإعلاميين، وأن يُفرَج عن كل معتقلي الرأي والتعبير، وأن توقف المحاكمات الجارية في حق أصحاب الرأي والتعبير عامة. نحن هنا لنشارك الأسرة فرحتها، ونشارك الحقوقيين المغاربة فرحتهم ونضالهم». استفاض المهداوي في الحديث ومهنئوه يتحلقون حوله إنصاتا وفرحا بخروجه من السجن، وبين ألم الاعتقال واستغراب السبب الذي كرر أنه مازال لم يستوعبه، تبدو صدمة سجنه ثلاث سنوات عصية على التقبل من خلال حديثه الذي لم يخل من سياسة وحديث عن وضع البلد، وإن كان الحيز لا يسمح. مشهد يذكر بصورته وهو محاط بمواطنين في الحسيمة يحدثهم ليلة العشرين من يوليوز 2017، مشهد كان بوابة دخوله السجن، ومن الحسيمة إلى الدارالبيضاء إلى تيفلت كانت رحلة فسجون دخلها من الحسيمة وخرج منها من تيفلت بحكايات ذات شجون.