أنام ملء عيوني عن شواردها // ويسهر جراها القوم ويختصم. يكاد بيت المتنبي هذا يكون حال الرئيس التركي أردوغان، مع كثير من المبتلين ب"فتنة البوليتيك/البوليميك". ففي الوقت الذي يرفعه البعض لمقام "المهدوية"، ولو برداء أهل السنة والجماعة، يهوي به آخرون إلى درك "المسيح الدجال"، أو "راسبوتين". مازال كثيرون ينظرون إلى القائد السياسي بمنظار مانوي، فهو إما المخلص الذي سيملأ الأرض عدلا، ويعيد الحق المسلوب، ويقود المستضعفين لحكم العالم، وإما أنه صناعة في مختبرات الماسونية والصهيونية، وسليل اليزيد بن معاوية قاتل الحسين. وفي كلتا الحالتين، فعين المحب كما عين الكاره، تصاب بالعمش ثم يدركها العمى. يطرب الأردوغانيون لانتفاضة الرئيس التركي أمام نظيره الإسرائيلي في قمة دافوس، ويغلقون العين عن استمرار العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بين أنقرة وتل أبيب، ويبررون للطيب أردوغان باستدعاء تعقيدات النظام الدولي والجيواستراتيجية، بما لا يبررون لأنظمتهم المحلية إذا اكتشفوا توريدا لبذور إسرائيلية فقط، فيرفعون العقيرة ضد التطبيع. ويصرخ "الأنتي أردوغانيين" ضد التدخل التركي في سوريا وليبيا، غاضين البصر عن باقي التدخلات، وكأن بوتين والراحل قاسم سليماني ومحمد بن زايد وماكرون كانوا يقومون فقط، بجولات سياحية بين الجماجم والجثث والدماء. تعمدت هذين المثالين التبسيطييَن لفهم أثر العاطفة في بناء الموقف. يبني القوم الموقف في قضية التطبيع مثلا، لا من محددات الفعل، بل من هوية الفاعل، ففتح مكتب اتصال إسرائيلي في موريتانيا مثلا خيانة، واستمرار التعاون العسكري الإسرائيلي التركي مناورة حكيمة. واقتحام الدبابات التركية الشمال السوري جريمة وانتهاك لسيادة دولة، بينما الحضور الإيراني هو لتأمين استمرار المقاومة في جنوبلبنان. لماذا يصر البعض على تصوير أردوغان نصير الحق والديمقراطية والدين بشكل مطلق؟ ولو استفرد بالقرار في الحزب والدولة معا، وأقصى رفاق الدرب الطويل، ولو تراجع عن تهديدات كثيرة أطلقها، ولو اعتقل كثيرا من مخالفيه ومنتقديه. ولماذا يتباكى البعض عما يصفونها نزوعات استبدادية، فيما هم يمجدون دكتاتوريات وسلطويات تمتد من طهران حتى بيانغ يونغ؟ ويتحدثون عن تدخله في الشأن الليبي، ويسكتون عن طهران التي تحكم بغداد، أو أبو ظبي التي تدمر صنعاء، أو روسيا التي تقود بالتيليكوموند القصر الرئاسي بدمشق. طبعا، الجميع يلعن الشيطان الأمريكي، ويتهم الآخر بالعمالة له، فيما هو يوجد في تفاصيل الفريقين. نجح أردوغان في جعل تركيا قوة إقليمية فاعلة، ببراغماتية عالية، عرفت كيف تقرأ أخطاء تجربة نجم الدين أربكان. يوظف الصعود الصناعي والاقتصادي التركي داخليا وخارجيا، ويستفيد من حالة اللايقين التي يوجد عليها النظام العالمي لكي يتمدد خارج ما هو مسموح به في حالات اليقين، ويستثير الشعور التركي القومي، وفي الآن نفسه الشعور الديني في العالم السني باستدعاء الأمجاد العثمانية، لذا ليس مستغربا أن تصبح آيا صوفيا في مقبل الأيام محجا للمسلمين السنة، في نفس مقام مكة والمدينة والأقصى، إنه الإسراء الرمزى نحو القبلة التركية التي ستصبح مركز الإسلام السني. جدير بالإشارة، أن جزءا من نجاحات أردوغان مرتبطة بكاريزماه، وفي صحراء "اللايقين" التي يعبرها العالم، نتيجة فشل الطوباويات الشمولية من جهة، وأزمة الديمقراطية التمثيلية من جهة أخرى، كان الطريق السيار مفتوحا للقيادات التي تتقمص شخصية "المخلص" الذي يرمم سنوات "الإهانة" أو يرفع صوت البلد عاليا بين الأصوات الكبيرة، أو يمنح "الأمان" وسط عالم التقلبات.. من هذه الرحم خرج أردوغان وبوتين وجين بينغ وكاغامي،، وحتى ماكرون وأوباما وترامب وميركل وبولسونارو.. إنه البحث عن القائد الذي يقلب قواعد اللعبة، أو القائد الذي يمتلك كاريزما القوة. هل تشكل تركيا الأردوغانية بطموحاتها خطرا على المنطقة؟ يقيني أن وجود قوة إقليمية مثل تركيا أو إيران لا يمكن أن يكون استراتيجيا إلا في خدمة أفق قيام أقطاب إقليمية ودولية متعددة، وأن إضعاف هذه القوى لن تستفيد منه إلا الأقطاب المهيمنة تقليديا. فقط، علينا ألا ننظر إلى أردوغان كما كان ينظر بعض القوميين لجمال عبدالناصر أو صدام حسين، وكما كان ينظر بعض الإسلاميين إلى عمر البشير وأسامة بن لادن، وكما ينظر بعض اليساريين إلى مادورو أو حتى بوتين.. أردوغان باختصار، ليس مشروع خليفة للمسلمين، وليس مشروعا إمبرياليا جديدا.. هو صناعة تركية خالصة، عرفت كيف تقرأ كتاب الماضي والحاضر، وأي قراءة مهما كانت حصافتها تعتورها أخطاء.