«يا ليتك كنت معي هنا.. لقد تغيرت بفضل نصائحك»، هذه كانت آخر الكلمات التي كتبها «جورج فلويد» في نسخته المغربية، إلياس طاهري، قبل وفاته الغامضة، زوال فاتح يوليوز 2019 في مركز لإيواء القصر بإسبانيا. بين مقطع فيديو مسرب وتقرير الطب الشرعي الأولي اللذين يرجحان أن إلياس مات اختناقا بعد تثبيته وتقييده فوق سرير من لدن 6 حراس أمن، وبين تقرير الطب الشرعي النهائي الذي يزعم أنه فارق الحياة بسبب «موت عرضي عنيف» دون أن يشرح كيف ومتى بالضبط، ضاعت الحقيقية. 13 دقيقة تقريبا كانت كافية ليخرج إلياس، البالغ من العمر 18 ربيعا، من مركز «لاتييرا دي أوريا» في مدينة ألميريا» الذي دخله حيا، جثة هامدة، ويطوى الملف وكأن شيئا لم يحدث، قبل أن تعيد صحيفة «إلباييس»، يوم الأربعاء المنصرم، قصته إلى الواجهة بعدما دفنها الأمن والقضاء والحكومة في يناير الماضي. ودفعت الطريقة التي توفي بها القاصر المغربي، إلياس طاهري، أثناء تثبيته وتقييده على سرير من لدن 6 حراس أمن، الصحافة الإسبانية والدولية إلى استحضار قصة مصرع جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصول إفريقية، خنقا حد الموت، على يد شرطي أمريكي في مدينة مينيسوتا، يوم الاثنين 25 ماي المنصرم، إلى درجة أنها وصفته بجورج فلويد المغربي. لكن شتان بين الهالكين، فإذا كان الضمير الأمريكي والعالمي اهتز لمصرع جورج فلويد، فإن الشاب المغربي لم يجد من يبكيه، باستثناء أسرته التي استأنفت الدعوى بعدما حفظها القضاء في يناير الماضي، والتي تطالب بالقصاص لابنها. وإذا كان العالم سمع فلويد يتوسل إلى جلاده في 8 دقائق قائلا: «لا أستطيع التنفس»، فإن صوت المغربي لم يسمع، ووحدها الصورة هي التي تنقل آهاته. ويبدو أن هذه القضية ستعرف تطورات مهمة في الأيام المقبلة، لاسيما بعد دخول «محامي الشعب الإسباني» على الخط وفتحه تحقيقا في النازلة، إلى جانب تحركات الأصوات والمنظمات الحقوقية للمطالبة ب«الحقيقة الضائعة» في وفاة إلياس. الكاميرا تحرج القضاء والحكومة والأمن تطرح قضية المغربي إلياس سؤال من نُصدق؛ هل كَاميرات المراقبة الأمنية المثبتة في المركز، والتي سجلت بالصورة دون صوت «ما قبل وأثناء وبعد مصرع إلياس»، أم المحضر السري المكون من 637 ورقة حول مقتله؟ في الحقيقة، تظهر الكاميرات أن الشاب المغربي أُدخِل إلى ما يطلق عليه ساكنو المركز «غرفة الموت»، والمعروفة قانونيا ب«غرفة التقييد»، أي تثبيت القصر الذين يدخلون في حالة هستيرية أو أي شيء من هذا القبيل إلى حين عودتهم إلى الحالة الطبيعية؛ وكيف أنه كان مصفَّد اليدين؛ وكيف أنه كان هادئا ولم يبد أي مقاومة؛ وكيف شارك في عملية تثبيته على السرير وتقييده أكثر من 7 حراس وشخصان آخران بزي مدني كانا يراقبان الوضع من باب الغرفة؛ وكيف ألقي على بطنه بدل ظهره، ما جعل التنفس صعبا؛ وكيف أن 6 حراس أمنيين واصلوا عملية تقييده وتثبيت رجليه ويديه على السرير. وفجأة، وضع أحد عناصر الأمن ركبته قرب رقبة الشاب المغربي. كان ذلك في الدقيقة الخامسة. وحوالي الدقيقة السابعة و41 ثانية همد جسم المغربي ولم يعد يتحرك، ما دفع أحد الأمنيين إلى تحريك رأس الضحية، لكنه لم يستجب، ثم حاول جس نبضات شرايين الرقبة. ومع ذلك واصل الحراس الستة إجراءات تثبيت القاصر على السرير إلى أن انتهى الشريط في 13 دقيقة، رغم أنه أصبح جثة هامدة. في المقابل، سايرت القاضية بمحكمة ألميريا، تيريسا إنيس سانتشيز جيسبيرت، رواية الطبيب الشرعي، خوان لويس بلانيكي، ومحاضر الضابطة القضائية، وحفظت الدعوى القضائية، مبررة ذلك بأن القاصر المغربي فارق الحياة على إثر «موت عرضي عنيف». لكن هذه الخلاصة تعارض مقطع فيديو أوردته «إلباييس» يظهر أن حراس أمن أخضعوا إلياس لما يسمى «التقييد الميكانيكي الممدد»، وهي طريقة أمنية لتثبيت كل من يقاوم رجال الأمن. كما أن مقطع الفيديو يظهر حراس الأمن يخرقون البروتوكول الذي ينص على أن عملية تثبيت أي شخص تكون عبر إلقائه على ظهره، لكي يتمكن من التنفس، وليس على بطنه. ومن أجل تبرير مشاركة ستة حراس أمن، وشخصين آخرين بزي مدني، في تثبيت وتقييد القاصر المغربي، لجأ المحققون الإسبان إلى تقارير الأطباء النفسانيين الذين كانوا عاينوا الوضع الصحي لإلياس من قبل، والذين يقولون إنه يعاني «اضطرابات نفسية تجعله معاديا للمجتمع»، كما تزعم التقارير ذاتها أن القاصر كان لديه «أب عنيف»، وأنه عانى تسلط أقرانه في المدرسة، في شارة إلى أنه تأثر نفسيا بمرحلة الطفولة، مبرزين، أيضا، أنه كان يتعاطى المخدرات منذ سن العاشرة. وحتى لو سايرنا هذه الرواية، فإن بروتوكول «جمعية التدبير والاندماج الاجتماعي» (Ginso)، المكلفة بالمركز الذي توفي فيه القاصر المغربي، يبرز أنه «بشكل عام، يكون وضع القاصر ملقى على الظهر والفم إلى الأعلى؛ ويلقى استثناء على البطن والفم إلى الأسفل إذا بُرر ذلك بوصفة طبية أو بظروف أخرى»، ما يؤكد أن برتوكولات هذه الجمعية لا علاقة لها بما حدث، حيث إن الجمعية كانت دوما محط انتقادات وشكايات، بل سجلت وفيات في مراكز أخرى تديرها، وفق «إلباييس». وإذا كان تقرير التشريح الطبي الأولي تحدث عن وفاة الشاب المغربي اختناقا، فإن التقرير الشرعي النهائي استبعد الخلاصة الأولى، مؤكدا أن السبب المباشر هو «عدم انتظام دقات القلب» ما تسبب في الموت العرضي العنيف. وإذا كان التقرير الذي أدلت به إدارة المركز إلى المحققين الإسبان يزعم أن الحراس حاولوا وضع المغربي على ظهره وفمه إلى الأعلى، لكن مقاومته لعناصر الأمن حالت دون ذلك؛ فإن مقطع الفيديو يظهر العكس كليا، إذ إن المغربي لم يبد أي مقاومة تذكر، كما اتضح أن أفراد أمن المركز تعمدوا إلقاءه على بطنه وفمه إلى الأسفل، كما وضع أحدهم ركبته قرب عنقه. بل أكثر من ذلك، ادعى تقرير إدارة المركز أن القاصر كان «يركل»، و«يقاوم بشدة»، «وكان يتحرك»، و«أنه لم يتعاون إلا قليلا (مع حراس الأمن)»، غير أن مقطع الفيديو يقول نقيض زعم الإدارة. في الحقيقة، بعثر مقطع الفيديو المسرب أوراق إدارة المركز وحراس الأمن. فحتى تصريح حارس الأمن، خوسي لورينتي لوبيث، الذي ادعى أثناء التحقيق معه أنه كان يمسك برأس إلياس لجعله يميل جنبا لكي لا يختنق، ويستطيع التنفس؛ كذبه مقطع الفيديو الذي يظهر أنه ابتداء من الدقيقة الخامسة وضع حارس الأمن ركبته فوق منطقة قريبة من رقبة إلياس، وركبته الأخرى على الظهر، فيما كان 5 عناصر منكبين عليه ويقيدونه، قبل أن يصبح جثة هامدة، ظاهريا، على الأقل، ابتداء من الدقيقة الثامنة. ويعترف تقرير الطب الشرعي النهائي بأنه على الجانب الأيسر من رقبة إلياس توجد رقعة واسعة ومستديرة مائلة إلى الاحمرار تمتد تقريبا إلى 4 سنتيمترات؛ لكنه لم يشر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى ركبة الحارس التي كانت تثبت إلياس بالقرب من رقبته. فضلا عن ذلك، تطرح التحقيقات التي أجراها الحرس المدني الإسباني أكثر من علامة استفهام حول وفاة إلياس، إذ أكدت أن تصرف حراس أمن المركز «كان صحيحا»، ومن أجل تبرير ذلك، يستدل الحرس المدني ب10 صور للواقعة، لكن كلها لا توثق اللحظات التي كان فيها حراس الأمن فوق ظهر إلياس، كما عاين العالم ذلك في الفيديو المسرب. مع ذلك، لم تستسلم أسرة الشاب المغربي، وقررت استئناف الدعوى التي حفظها القضاء بناء على محاضر الحرس المدني وتقارير إدارة المركز. وتعول الأسرة على مقطع الفيديو المسرب لتأكيد وجود مؤشرات القتل العمد. ومن شأن العودة إلى تسجيلات الكاميرات المثبتة في «غرفة الموت» كشف بعض أسرار هذا الموت الغامض. في تفسيرات أخرى، تقول إدارة المركز إن والدة إلياس زارته يوم الأحد 30 يونيو، أي يوما واحدا قبل وفاته يوم فاتح يوليوز، وأشارت في تقاريرها إلى أنه كان بخير ويتمتع بصحة جيدة، باستثناء الاضطرابات النفسية التي كان يعانيها. في ذلك اليوم، اجتمع إلياس بوالدته وشقيقته الصغيرة، ووعد أمه بألا يثير المشاكل، وودعهما على أمل اللقاء مرة أخرى. آلاف الأطفال المغاربة تحت رحمة حراس الأمن وأعادت «الحقيقة الضائعة» حول وفاة المغربي إلياس، إلى الواجهة، وضعية آلاف القاصرين الأجانب الذين يعيشون في مختلف مراكز إيواء القاصرين بمختلف المدن الإسبانية، والذين يوجد بينهم ما يزيد على 7000 قاصر مغربي. إذ طلب محامي الشعب الإسباني من مختلف الإدارات رفع وتيرة مراقبة مراكز الإيواء بعد وفاة إلياس وهو ملقى على بطنه ومحاط بستة حراس أمن، وأكد أنه يشعر بالقلق إزاء «قضية إلياس، وأنه سيتوجه إلى الإدارة لكي يقول لها إنه يتوجب تغيير القوانين والإجراءات، وتعزيز المراقبة في المراكز»، وأشار إلى أن محامي الشعب إلى جانب مجلس الأندلس فتحا تحقيقا في القضية. واعترف محامي الشعب بأنه في إحدى الزيارات التي قام بها إلى المركز الذي مات فيه إلياس، وقف على اختلالات من قبيل؛ «عدم كفاية المساحة في الغرفة التي يجري فيها التثبيت الميكانيكي، كما أنها ذات أبعاد صغيرة، دون سرير مفصلي ومثبت على الأرض، كما تفتقر إلى نظام اتصال داخلي ونظام مراقبة بالفيديو مع الصوت»، وهو الشيء الذي يؤكده المقطع المسرب دون صوت. وكما هي عادة اليمين، نأت حكومة الأندلس اليمينية بنفسها عن الموضوع، مكتفية بالقول: «لقد حفظت السلطة القضائية القضية. تقرير الطب الشرعي واضح، والأسرة استأنفت الدعوى. نحن نحترم قرار القضاء».