تقوم الحركة الأولمبية على مبدأ «الأقوى، والأعلى، والأسرع». وحين يصعد الفائزون إلى منصة التتويج، يعزف النشيد الوطني للأول وحده. ويهتم الإعلام بالبطل والنجم، فيما ينسحب المدرب والمعد البدني وبقية الفريق نحو مستودع الملابس. ومع ذلك، يقال دائما إن الرياضة تعلم روح الجماعة، وتلغي التمييز، وتغرس القيم النبيلة. في واقع الأمر، تقوم الرياضة التنافسية بشكلها الحديث؛ أي ما بعد الهواية، على تكريس وتضخيم حب الذات في من يتعاطونها، لذلك، يعيش معظم أهلها مشاكل كثيرة مع أنفسهم ومع محيطهم، كما أن رياضة مثل كرة القدم تؤدي، غير ما مرة، إلى العنف، والتمييز، وتجعل من الجماهير كتلا متعصبة، وقابلة للانفجار في أي لحظة من اللحظات المفترض أنها خلقت للمتعة والفرح. في جلسات مطولة، ومتباعدة، مع الأستاذة ثريا أعراب، وهي بطلة للمغرب في رياضتي الجمباز والكرة الطائرة، وإطار عالي المستوى في التدبير والإدارة سابقا بمؤسسة «التبغ» (ريجي دي طابا)، وممثلة للمغرب قاريا ودوليا لسنوات، وإنسانة نبيلة، أكدت، في خلاصة لمسار رياضي عملي وعلمي كبير، أن الرياضة التنافسية تعلم الأنانية، وتزرع الضغائن، وقالت إن الرياضي حين يغادر الملعب نهائيا، يبدأ حربا مع نفسه كي يصالحها مع الذات ومع المجتمع ككل. وفي مرة قال الحارس الألماني الكبير، أوليفر كان، إن محاولاته المتكررة والدؤوبة لكي يحافظ على مكانته في مرمى المنتخب الوطني لكرة القدم جعلته يقسو على نفسه، فضلا عن شعوره بالغيرة إزاء منافسه ينز ليمان، الذي سيخلفه لاحقا. ولخص الأمر بالكلمات التالية: «إن الشعور بالغيرة سرعان ما يتحول إلى شعور بالحسد، ثم شعور بالحقد». وقد عبر ليمان بدوره عن مشاعر مماثلة، ذلك أنه كان يشعر برغبة قوية في حراسة المرمى، ويرى أنه من غير المقبول أن يكون متألقا ومع ذلك لا تتاح له الفرصة. ولأن بطولات العالم لألعاب القوى لا تحتمل مشاركة أكثر من ثلاثة رياضيين من كل صنف، فقد أدى الأمر إلى تراكم الأحقاد بين الكثير من أبطالنا. وهكذا، فلم يكن من المثير بالنسبة إلى من يعرفون الخبايا أن يقرؤوا في حوار لأحد الغائبين قولا من هذا القبيل: «لقد تعمد المدرب إقصائي، حتى يتيح الفرصة لبطله المحبوب». ولم تكن العناقات في نهاية السباقات سوى من قبيل البروتوكول، ولتفادي الحرج. إلى هذا الحد؟ نعم. فالرياضي يريد أن يكون هو الأول والأفضل على الإطلاق، وهذا من حقه. غير أن البعض يريد أكثر من ذلك.. ألا يزاحمه غيره في المكانة، ولا في النجومية. وبالنظر إلى التراكم، يتحول الأمر عند من يفتقرون إلى القيم النبيلة إلى مشاعر سلبية، سرعان ما تظهر في سلوكات سيئة، تترجمها تصريحاتهم، التي قد تتقبلها الجماهير المتعصبة، وربما تراها ممتعة وضرورية، مع أنها في العمق تناقض الروح الرياضية. وبما أن الرياضة صارت عبارة عن سباق نحو الثراء للرياضي، وقنطرة عبور بالمسيرين نحو الطبقات العليا للمجتمع والسلطة، فقد تفاقم الوضع أكثر فأكثر، إذ صار الرياضي إزاء موقف لا يحسد عليه. فمن جهة، تعلمه الرياضة التنافسية، بشكلها الحالي، أن يكون مفرطا في الأنانية لا يفكر سوى في نفسه، ومن جهة ثانية يفرض عليه قصر المدة المفترض أن يقضيها في الملاعب، وضرورة ضمان مستقبل مريح، أن يزيد في أنانيته أكثر، ومن جهة أخرى، تجبره أنانية المسير، بل وحتى الجمهور الذي سرعان ما ينسى اللقطة الجميلة فيدير له ظهره عند فشله، على أن يزداد اقتناعا بألا أحد غير «عضلاته» سيشكل منجاته في الأوقات الحرجة. أليس للرياضة جوانب إيجابية؟ بالطبع لها الكثير من الجوانب الإيجابية. لكن الملاعب تخبئ الكثير من المآسي، التي تتولد مع مرور الوقت، وبفعل المشاعر السلبية المتركزة في لاشعور الرياضيين، بفعل شحنهم بجرعات متواترة، وعلى مر الزمن، تلقنهم كيف يكونون مفرطين في الأنانية. فلا يكفي أن يكون الرياضي ضمن فريق لكي يوصف بأنه يمارس لعبة جماعية، وليس صحيحا أن الرياضات الفردية وحدها التي تعلم حب الذات. وحتى حين توجد الاستثناءات، وهي مهمة وذات قيمة، فهي مرتبطة دائما بالقيم المغروسة في الرياضي تربويا وتعليميا، وقلما يكون مصدرها الرياضة بشكلها الحالي. وإذا كان صحيحا أن الرياضة تلهب مشاعر الجماهير، وتنمي لديها الحس الوطني، فإنها، في المقابل، تعزز مشاعر سلبية لدى معظم من يمارسونها، وأيضا لدى الجماهير، ولعل من ظلوا يتابعون، على مدى السنوات الأخيرة، الدوري الإسباني لكرة القدم، لاحظوا حجم التنافر بين الجمهور العاشق لقطبي الليغا، وهما ريال مدريد وبرشلونة، وكيف اغتنى البعض من «المناقرات الحاقدة» بين من يهيمون حبا برونالدو والشغوفين بميسي؛ وكيف كان يحاول كلا اللاعبين أن يبرز أنه الأفضل، حتى وإن اقتضى الأمر تضحيته بزملاء له في الفريق نفسه. ما الحل إذن؟ تقوم الرياضة التنافسية بالأساس على الوصول إلى الرتبة الأولى. وبدخول المال، تحول أمرها إلى حروب من أجل تلك الرتبة. وفي المقابل، تراجع دور القيم النبيلة التي جاءت بها الهواية في البدايات. وفي كتاباته الكثيرة حول موضوع الأخلاق في الرياضة، حاول الأستاذ إدريس مغاري، المختص في فلسفة الرياضة وفكرها، أن يدق ناقوس الخطر، ويؤكد ضرورة إعادة النظر في المفاهيم وتجديدها، رحمة بالرياضيين. وصل الأستاذ مغاري إلى خلاصة جميلة جدا، وهي ضرورة دمج القيم النبيلة في السلوك الرياضي، خاصة عبر التلقين والتدريب، بغرض الوصول إلى رياضة نبيلة بحق. فالرياضيون، كما يقول، ليسوا آلات، بل بشر. وعلى الرياضة أن تتغير لكي لا تسرق منهم إنسانيتهم ونبلهم. شكرا للرياضيين النبلاء، وما أكثرهم.