لم يكن عبدالرحمان اليوسفي ملاكا، لكنه ربط السياسة بالأخلاق، وبقي نقيا، زاهدا في المصالح والامتيازات، لذلك أحبه المغاربة. الرجل تحول في السنوات الأخيرة إلى أسطورة حية، لأنه كان مقلاّ في الكلام، والصمت يضفي على صاحبه هالة من القداسة، خصوصا إذا امتزج بالعفة ونظافة اليد. عرّاب “التناوب التوافقي” عرف كيف يبقى كبيرا في زمن الصغار، لذلك استطاع أن يجمع المغرب الشعبي والرسمي في صف واحد، ووُدِّع بالورود والمناديل. صحيح أن التشييع لم يحضره أكثر من عشرة أشخاص، بسبب الوباء، لكن جنازته كانت “مهيبة” على وسائل التواصل الاجتماعي، كرّمه الناس من مختلف الأجيال والأطياف والطبقات، قلما اهتم المغاربة برحيل سياسي مثلما اهتموا بصعود اليوسفي إلى السماء. قريبا من السماء، يمكن أن نقول إن اليوسفي كانت معه نجمة ترافقه، وتنير له الطريق، بخلاف كثير من رفاقه في الحركة الاتحادية، الذين لا يقِلّون عنه أهمية، لكن ينقصهم حظه، مما جعلهم يقفون في الجهة الخطأ من التاريخ. محمد الفقيه البصري كان في صف قيادي متقدم، خلال العشرين سنة التي تلت الاستقلال، لكن “الاختيار الثوري” جعله يتقهقر إلى الصف الثاني، ويعيش على هامش الأحداث، بعد المؤتمر الاستثنائي لعام 1975، في الوقت الذي حدس فيه اليوسفي أهمية المحطة، وبعث برسالة صوتية إلى المؤتمر، جعلته في قلب الحركة الجديدة، رغم وجوده في المنفى. أما محمد اليازغي، فقد كان يفترض أن يخلف عبدالرحيم بوعبيد، لأنه وريثه الشرعي، وأكثر من يجسّد الخيار “الاشتراكي الديمقراطي” في حزب “القوات الشعبية”، لكن حظه السيئ جعله يقف في المكان الخطأ، دائما، وضاعت منه الكتابة الأولى عام 1992، بسبب الصراع مع نوبير الأموي، وعندما حاول أن يستعيد المبادرة، وسيطر على التنظيم، كان الأوان قد فات، وانقلبت عليه الكائنات التي صنعها بيده، ليجد نفسه يخرج من الباب الضيق. لم يقتله الطرد الملغوم وقضت عليه حقيبة فارغة. نجمة المهدي بنبركة وعمر بنجلون انطفأت مبكرا. هكذا شاءت أيادي الغدر. وماذا عن عبدالرحيم بوعبيد؟ ماذا لو كُتِب له أن يعيش سنوات أطول، وحدّثه الحسن الثاني عن “السكتة القلبية”؟ هل كان “التناوب” سيكون هو “التناوب”؟ هل كان سيسفر عن النتائج عينه؟ “التناوب التوافقي” كان يصبو إلى تحقيق هدفين: انتقال هادئ إلى الحكم من الملك إلى ولي عهده، وانتقال سلس للسلطة من الاستبداد إلى الديمقراطية. الهدف الأول تحقق، والثاني فشل. الحكم انتقل من الحسن الثاني إلى محمد السادس بسلاسة أدهشت العالم. وعندما أقال “الملك الجديد” وزير الداخلية إدريس البصري، ورفع الحصار عن عبدالسلام ياسين، وأعاد أبراهام السرفاتي إلى بلاده، لم يكن محمد السادس يفعل شيئا آخر غير الضغط على “اكسيليراتور” السيارة التي وضعها الحسن الثاني على طريق معبّد في اتجاه “الديمقراطية”، لكن بدل أن تواصل السير على “الأوتوروت”، انحرفت فجأة، وسارت نحو المجهول… عام 2002، استطاع “الاتحاد الاشتراكي” أن يحتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية التي جرت في 27 شتنبر، وفي الوقت الذي كان الجميع يترقب تثبيت اليوسفي على رأس الوزارة الأولى، لتسريع وتيرة الإصلاحات، استقبله الملك في مراكش يوم 9 أكتوبر 2002 لمدة ربع ساعة وقال له: شكرا على المشاركة… والبقية تعرفونها. بلَعَ اليوسفي خيبته وألقى خطابه الشهير في بروكسل يوم 25 فبراير 2003، وهو بمثابة وصية سياسية شديدة الوضوح، يختمها بهذه الخلاصة القاسية: “لقد كان قبولنا بقيادة تجربة التناوب مخاطرة أخذنا فيها في الحسبان المصلحة الوطنية وليس المصلحة الحزبية. واليوم، وقد انتهت هذه التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديمقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام، التي ستشكل قطيعة مع ممارسات الماضي، فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني يلزمنا بالانتظار سنتين، على أمل أن نرى إمكانية تحقق الحلم في انتقال هادئ وسلس نحو الديمقراطية، ونتمنى أن لا نفقد في المستقبل القريب ملكة الحلم والقدرة عليه”. انتهى الكلام، على رأي عبدالإله بنكيران، الذي زلق على “قشرة بنان” مماثلة في سياق مختلف، أكثر من عشر سنوات بعد ذلك. فهم عبدالرحمان اليوسفي أن فيلم “التناوب” قد انتهى، وقَنع بالدور الذي لعبه، وبالجوائز التي حصدها، رغم أنه لم يكن راضيا تماما عن الإخراج والحبكة والبناء الدرامي. النجمة كانت معه، مرة أخرى، وأوحت له أن يخرج من السياسة ويدخل إلى التاريخ!.