بعدما تطرقنا في المقال السابق لدعامة الفلاحة، نقف في هذا المقال على الدعامة الثانية التي تساهم في تشكل الاقتصاد الوطني، وهي الدولة. لقد سبق للمستشرق الإنجليزي Jubterbry سنة 1979 أن كتب عن المغرب يقول: »إن مركز جاذبية النشاط الاقتصادي والرأس مال، سواء أكان أجنبينا أو وطنيا خاضع للدولة، أو بخصوص الاتفاقات التي يعرفها هذا النشاط أو الرأسمال الذي يستثمر أو اللوجستيك الذي يحتاجه«، فالدولة في المغرب هي المشغل الأول، وهي المستثمر الأول، وهي، كذلك، المستهلك الأول، ولا يمكن لأي فاعل اقتصادي سواء أكان خاصا أو عموميا أن ينمي مداخله دون تدخل الدولة. فالاقتصاد عندنا مرهون بقرارات الدولة واستراتيجياتها، وإليها يعود الجميع عندما نحتاج إلى تصحيح الاختلالات، أو محو الديون أو طلب إعفاءات، أو التمتع بامتيازات ضريبة أو الحصول على تراخيص “ريعية ما”، أمام هذا الواقع، فإن تطور وازدهار القطاع الخاص أمر صعب جدا. أولا، للقوة التنظيمية والإدارية التي تحتكرها الدولة بفعل تبوؤها مكانة مركزية خلال تاريخ المغرب من جهة. وثانيا، لأن هذا القطاع يحمل معه مكامن ضعفه وهشاشته منذ الطبيعة السوسيو-اقتصادية التي رافقت نشأته وصاحبت كل مراحل تطوره. الدعامة الثالثة والأخيرة، التي تشكل الاقتصاد المغربي، هي القطاع الخاص، فضعف الدينامية التي تعرف بها الأنشطة المانيفكتورية (Manifacturier) المغربية بادية للعيان من خلال النسب والأرقام التي يساهم بها في عملية نمو البلاد، ففي الفترة الممتدة بين 2008-2013، سجل القطاع الصناعي تراجعا ب 700 نقطة، في الوقت الذي ارتفعت فيه مساهمة القطاع الأول إلى نقطتين والقطاع الخدماتي إلى 3,3 نقطة. على العموم، فإن القطاع الصناعي يبقى هو القطاع الذي تأتي مساهمته منخفضة في مجمل الإنتاج الداخلي الخام، مقارنة مع القطاعات الأخرى من جهة، ومقارنة مع الدعم الذي يتلقاه من قبل الدولة، من جهة أخرى. أما من جهة الاستثمارات، فإن كل المعطيات تؤكد على أن الفاعل الرئيس في الاستثمار هو الدولة وقطاعاتها العمومية وليس القطاع الخاص، ففي الوقت الذي يلاحظ فيه ارتفاع نسبة الاستثمارات في المغرب، فإن حصة الدولة هي التي تبقى كبيرة، إذ وصلت إلى 22 % ، في حين بقيت نسبة القطاع الخاص لا تتجاوز 13%. وعلى الرغم من المجهودات المتراكمة للرأسمال خلال عقد 2000، فإن النمو الاقتصادي يعرف وتيرة النمو عينها التي عرفها الاستثمار، إذ بقي في حدود 4,4% ، في حين أن نسبة الاستثمار وصلت إلى 2.6 %، مما يعني ضعف الفعالية التي تمثلت في أن الاقتصاد المغربي في عقد 2000 لم يخلق حسب التقديرات، سوى ما بين 150 و160 ألف منصب شغل، في حين أن حاجيات التشغيل كانت تصل إلى نحو 350 ألف، كما أن القطاع الخاص المغربي يمتاز بنسيج إنتاجي يفتقر للتعدد والاختلاف، مما يجعله ضعيف القوة التصديرية، ويجعل ديناميته بدورها ضعيفة، فنسبة التصدير في القطاع المانيفكتوري المغربي لا تتجاوز 13% من الناتج الداخلي الخام، في الوقت الذي نجد فيه دولا أخرى شبيهة بالمغرب تصل إلى 25%. إن استقراءنا لبنية الاقتصاد المغربي من خلال هذه الدعامات الثلاث، تجعلنا نفهم جيدا نجاح الدور الذي لعبته الدولة عندما استبقت الوباء، وعملت على اتخاذ قرارات وتدابير للحفاظ على الحد الأدنى من الحياة العامة، وتدعيم المقاولات والأجراء وسن سياسة اجتماعية للمساعدة والمواكبة. إن الظرفية التي جاء فيها وباء كوفيد 19 لم تكن ظرفية اقتصادية مثالية في مسار تطور بلادنا، بل كانت تحمل العديد من مظاهر الاختلالات والعجز جعلت جميع الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والنقابيين يلتفون حول طاولة مناقشة النموذج التنموي الجديد بدعوة من رئيس الدولة الذي أدرك الانحصار الذي يتجه إليه اقتصاد البلاد. وعلى أساس هذه الخلفية الاقتصادية، فإن السياسة التي بادرت بها الدولة لمواجهة تداعيات الأزمة الصحية وما تستدعيه من حجر صحي على الاقتصاد المغربي، هي سياسة تعتمد على تنمية الطلب الداخلي بسخاء استثنائي، مما يعني أن الوسيلة الوحيدة هي للموارد المالية العمومية التي سوف تلقي بثقلها على مستقبل البلاد. فمرحلة ما بعد الوباء هي التي تستدعي تعميق التفكير في بدائل تمكن من إنعاش الاقتصاد المغربي بسرعة معقولة، تمكننا من تحقيق توازنات كفيلة من وقف النزيف الذي أصاب النفقات العمومية دون مقابل في الموارد. فالأزمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء هي أزمة دون نموذج، بمعنى أن البشرية لم يسبق لها أن عاشت في عصرها الحديث المعولم مثلها، وبالتالي، فإن التفكير في حلولها هو تفكير يكتنفه التجريب والاجتهاد والإصغاء الجيد لتفاصيل واقع ومظاهر هذه الأزمة. إن أزمة غير ناجمة عن حرب خربت البنيات التحتية والوحدات الإنتاجية، وليس ناجمة عن تطور تكنولوجي فاجأ الاقتصاد المغربي بتحولاته في الإنتاج وليست أزمة مالية، ولا هي ناجمة عن أزمة سياسية عطلت المؤسسات، إنها أزمة ناجمة عن حجر صحي منع المغاربة من الشغل والإنتاج والاستهلاك، وجعل حياتهم في مستوى الحد الأدنى للعيش، ما أفرز ركودا اقتصاديا دفع الدولة لتلعب دور الراعية والمواكبة بالمساعدات في جميع المجالات. والأكيد أن الخروج من الحجر الصحي سوف لن يكون بالقضاء التام على فيروس كوفيد 19، بل بالقدرة على محاصرته في أقل مستوى ممكن والتعايش معه بحذر شديد. على هذا الأساس، فإن أهم وسيلة ناجعة لإنعاش الاقتصاد بعد الخروج من الحجر، هي إنشاء سياسة عمومية وقائية تجعل الاقتصاد يقوم على اعتبارات صحية وقواعد السلامة من العدوى تمكن عدم انتشار جديد للفيروس. فالقطاعات التي عرفت أزمة شديدة هي قطاعات اقتصاد القرب، مثل الفنادق والمطاعم والمقاهي والمقاولات الصغرى والمتوسطة ذات الصلة بالمعيش اليومي للمغاربة، سواء في الإنتاج أو في النقل والمواصلات أو في الخدمات، وبالتالي، فإن تنشيط وانتعاش هذه القطاعات يعتمد على سن سياسة تنظيمية هدفها ليس الربح المالي، بل أساسا بناء واقع الوقاية لإعادة الثقة للمستهلك كي يتسنى له الخروج في ظروف مواتية.