تستمر ردود الفعل على حوار «أخبار اليوم» مع أبو بكر الجامعي، مؤسس صحيفتي «لوجونال» و»الصحيفة». في هذا الرد، يعود عبد العزيز كوكاس، وهو صحافي عايش تطور الأحداث في هذه المؤسسة، لتسليط الضوء على مناطق ظل جديدة في هذه التجربة. في كل مرة يثار فيها النقاش حول جريدتي “الصحيفة” و”لوجورنال”، التي كنت في قلب تفاعلاتهما لأكثر من ست سنوات كصحافي ثم كرئيس فمدير التحرير، كنت أحاول أن ألجم نفسي عن الخوض في غماره، على اعتبار أن ما ظل يثار لا تحركه رغبة حقيقية في عرض التجربة وسرد تفاصيلها كملك مشترك للذاكرة الجماعية، للذين صنعوها محررون وكتاب وقراء، والذين أغنوها واستلهموها وكوروها في تجارب صحفية لاحقة.. وأن معظم الذين تحدثوا عن تجربة “الصحيفة” و”لوجورنال”، كانت تطغى على سردهم أنا نرجسية أو بطولية، أو تصفية حسابات أو تحركهم هواجس تكمن إسقاطاتها في الحاضر، أو يتحول سردهم إلى إنثيالات عاطفية جياشة، لكنها لا تصنع معرفة بالظاهرة المتحدث عنها.. وبرغم إثارة اسمي في العديد من المرّات كنت أخشى على نفسي من أن أنحو في الاتجاه ذاته: منحى تبرئة الذات أمام تجريم الآخرين، أو تسويد الأبيض وتبييض الأسود، لكن النفس الأمّارة بالنشر كان لها الفيصل في الخوض فيما يخوض فيه الخائضون اليوم، مع بعض الاحتراز لتصويب ما يجب تصويبه، والحذر من سلطة الذاكرة التي يقول عنها بورخيص: “إنها لا تصلح إلا للنسيان”. ذلك أنني أعي أننا لم نتخذ المسافة الكافية لنتحدث عن تجربتي “الصحيفة” و”لوجورنال” بالحياد الضروري والاستقلال الموضوعي.. عشت في قلب “ميديا تروست” التي كانت تصدر “الصحيفة ولوجورنال”، والكثير مما أسمع اليوم، حتى ممن كانوا في قلب معمعة صناعة هذين الهرمين الكبيرين في تاريخ الصحافة الوطنية، يبدو مغموسا بواقع الحال، أتساءل أحيانا هل وقع بالشكل الذي جرى سرده حقيقة، أم هو يعرض بالموقع واللحظة التي يوجد فيها سارد هذه الوقائع، لنتفق أولا أن الصحف لا تصدر وتنتشر تعبيرا عن الآراء والرغبات الذاتية لمحرريها، وإنما هي تصدر وتنتشر عندما تعبر عن آراء ومصالح أوسع وأكبر لقوى وتيارات اجتماعية، وكما يؤكد حسنين هيكل فنجاح أي تجربة صحافية هو رهين بتعدد القوى في المجتمع الذي يخلق إمكانية تنوع الآراء تعبيرا عن هذه القوى التي تصبح قادرة على حماية حقها في التعبير عن نفسها.. وبهذا المعنى، فالراحل فاضل العراقي وبوبكر الجامعي وجمال براوي وعلي المرابط ونور الدين مفتاح ومحمد حفيظ وهذا العبد الضعيف وباقي زملاء التحرير كي لا ننسى، كنا مجرد تعبير عن هذه الآراء المتنوعة في المجتمع، وجدنا بالصدفة أو بحكم اللحظة التاريخية في قلب الحدث، نساهم في صنع هذا التنوع والسماح لمختلف القوى الحية في التعبير عن نفسها، ليس هناك ملائكة وشياطين بيننا، كل واحد منا له نصيب من النجاح، وساهم من جهته بشكل أو بآخر في مآلات الفشل، دون تبرئة السلطة وأدواتها الجهنمية وحربها المريرة. كنا على حلم.. حتى جاء الأمير لم تكن “الصحيفة” و”لوجورنال” كتجربتين متميزتين إلى جانب الصحف التي جاءت بعدها، والتي تماثل خطها التحريري، منعزلتين عن التباسات المرحلة التاريخية لنهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، فغموض الفاعلين وانتقال المعارضة السياسية إلى دفة تسيير الشأن العام وطول مرحلة الانتقال الديمقراطي والتباس تحديد وظيفة الصحافي بدقة وعدم وضوح السلطة والمجتمع ذاته حول هوية الصحافة التي يريدها… كل ذلك ألقى بظلاله على التجربتين الصحافيتين، لذلك وقع الكثير من الانفلات والصدامات داخل المؤسسة، وتلك التي جاءت من خارجها أيضا. كنا نعيش مثل مجتمع مصغر بكل تناقضاته، في “الصحيفة” كان أغلبنا قادما من الطبقات الاجتماعية الدنيا، نفتخر بتكويننا السياسي وبجودة ما نخط وبقوة مصادر أخبارنا، وشباب “لوجورنال” متحررون أكثر في لباسهم وسلوكهم، لهم جرعة جرأة زائدة، ودراية بالتقنيات الحديثة أكثر منا، وتبدو سحناتهم التي تعكس أصولهم الاجتماعية مغايرة لنا، لكن مع ذلك، يعود الفضل لبوبكر الجامعي في إدارة هاتين الجريدتين بما يسمح بالتعايش، على ما بيننا من اختلاف مهول في الأجور ووسائل العمل، كنت أتفهم أن جزءا منه راجع لوضع الصحافة الفرنكوفونية المخملي مقابل الصحافة العروبية المستحدثة، قبل أن يحدث الانقلاب، بعدما كانت الصحافة الفرنكوفونية هي التي تخلق لسانها العربي: لوجورنال خلقت الصحيفة، ولاغازيت دوماروك خلقت الحدث، وتيل كيل احتضنت فيما بعد أسبوعية نيشان، ومع كل أزمة كان يتم التضحية باللسان العربي، قبل أن تنقلب الآية مع يومية المساء التي خلقت لوسوار قبل أن تعدمها. كانت هناك مسافات تسمح بحرية الاشتغال وبالحق في الاختلاف وروح الاستقلالية، حتى إن جاء النذير ذات يوم، في نهاية صيف عام 2000، كان الأمير هشام برفقة المبعوث الأممي كوشنير في كوسوفو، ذهب صحافيون مغاربة إلى هناك، كان من بينهم بوبكر الجامعي مدير جريدتي لوجورنال والصحيفة، وتوفيق بوعشرين، أطلق الله سراحه، عن أسبوعية الحدث.. كان هذا أول لقاء للأمير هشام بالصحافة المستقلة. نشرت جريدة “لوجورنال” في عددها الصادر في 9 شتنبر 2000، ملفا تحت عنوان: “أمير في البلقان”، والمفاجأة كانت هي أن بوبكر سيتدخل لأول مرة في الغلاف الذي تصدره “الصحيفة”، حيث ألح على نور الدين مفتاح كرئيس تحرير لنشر الغلاف نفسه الذي أعده للوجورنال، فخرجت الصحيفة في عددها 96 الصادر في 8 شتنبر 2000 بغلاف تحت عنوان: “ماذا يفعل أمير مغربي في كوسوفو؟”، هذا الحدث سيكون له ما بعده، لقد دشن للقطيعة. قدمت صورة أنيقة للأمير “الذي يبدع أكثر من اللازم” كما جاء في تقديم بوبكر الجامعي للحوار مع الأمير هشام الذي كانت له حساباته الخاصة، سيعبر عنها بشكل تلميحي في الحوار ذاته قائلا عن تجربته في “كوسوفو”: “إنها تجربة إنسانية غنية دفعتني إلى إعادة تحديد أولوياتي”، وكان ذلك بالفعل منطلقا للعب في حقل بالغ التعقيد، سيجر على الصحافة المستقلة العديد من الويلات وتحريف مسارها.. حجب خبر شيكات الأمير هشام سيكرس خطأ له تبعاته مرة، حصلنا على معلومة كانت تشكل بالنسبة إلينا “قنبلة”، شيكات للأمير هشام، أحدهما صادر عن البنك المغربي للتجارة الخارجية لفائدة صحافي معروف بمبلغ سمين، وثالثهما باسم حسين مجذوبي بمبلغ أسمن، اعتبرنا الأمر غنيمة خبرية بالدليل، ناقشنا الأمر كثيرا، ذات أربعاء وهو يوم عطلة، هاتفني بوبكر الجامعي بعد الزوال وطلب مني القدوم إلى الجريدة على وجه الاستعجال، وكذلك كان، اعتبرت أن الأمر سيكون مهما، لكن تخميناتي طول الطريق كانت محض خيال.. عندما ولجت مكتب بوبكر، كان هناك المرحوم فاضل العراقي وعلي عمار وشخص نحيف البنية أسمر اللون، سأعرف أنه موظف لدى الأمير هشام وأنه جاء بملف، قدمه لي بوبكر، فوجدت نسخا من الشيكات التي توفرنا عليها، وبرفقتهما وثيقتين عبارة عن إقرار بدين، واحدة بخط يد الزميل بوعشرين والأخرى بيد حسين مجذوبي، ظل موظف الأمير حريصا على تناول الملف بعدما فرغت من قراءته خوفا من تصويرنا لأي وثيقة به، وفي الأخير بعد تلقيه مكالمة من الأمير اعتذر أن لديه موعدا للعودة بالطائرة إلى تارودانت، ناقشنا الأمر وقلّبناه على أوجهه وكنا أميل إلى نشر الوثائق وعرض وجهة نظر الصحافيين والأمير هشام ذاته.. في اليوم الموالي، وجدت رأيا آخر بعد تدخلات عديدة من الأمير هشام جرى التراجع عن النشر، وهنا ستتخذ العلاقة مع الأمير وضعا ملتبسا، حتى كما لو أننا أصبحنا في موقع تقديم شرعية أمام شرعية أخرى، وهنا خطر التباس الصحافي بالسياسي الذي ما أن قضى وطره من توظيف الصحافيين حتى انقلب عليهم في كتابه “الأمير المنبوذ”، وقال فيهم ما لم يقله مالك في الخمر. حكاية هيئة تحرير “الصحيفة” بعد استقالة مفتاح أود أن أصحح معطيين أعتبرهما من سهو الذاكرة فقط، إذ ذكر الزميل بوبكر الجامعي أنه بعدما غادر الطاقم المؤسس لجريدة “الصحيفة”: “بقي كوكاس لوحده، فأتيت بأحمد البوز ومحمد حفيظ”، والحقيقة غير ذلك، كما يحفظها أرشيف الجريدة ذاته، فقد استقال نور الدين مفتاح ومعه كل الصحافيين، وبقيت أنا والسكرتيرة والطاقم التقني كله عدا طارق جبريل الذي انضم إلى “الأيام”، في نهاية شهر يوليوز، فكتب علي المرابط خبرا يقول فيه: “باي باي الصحيفة”، كان الأمر يتعلق بانكسار حقيقي، جاء عندي بوبكر الجامعي محبطا وطلب مني عدم إصدار عدد الصيف ليكون أمامنا متسع للبحث عن هيئة تحرير جديدة، لكني رفضت وركبت التحدي لأن عدم إصدار عدد الصيف سيفقد “الصحيفة” قراءها وسيرسخ فكرة موتها، هنا اتصلت بمن سيصبح معظمهم طاقم تحرير “الصحيفة” طيلة المرحلة التي عملت فيها كرئيس تحرير من 2001 إلى نهاية يوليوز 2003، أما الصديق محمد حفيظ فلم يلتحق ب”الصحيفة” إلا في بداية ماي 2003، أي ثلاثة أشهر على مغادرتي وطاقم التحرير والتقنيين قارب “الصحيفة”. وأذكِّر الزميل بوبكر الجامعي بما كتبه هو نفسه في افتتاحية العدد 57 من أسبوعية “الصحيفة” الصادر في 15 مارس 2002 تحت عنوان: “آلامنا وآمالنا المشتركة”، والتي اتسمت بالكثير من الصدق الإنساني الذي خبرته في الرجل في المحن الكبرى أكثر مما أصبحت عليه تصريحاته اليوم، حين قال: “نعم، لقد خشينا على استمرارية الصحيفة، إن ألمنا كان بالفعل مهنيا، لكنه كان أيضا إنسانيا، فثمة محن مشتركة كانت قد جمعتنا في الألم، مثلما أن نجاحات جماعية قد جمعتنا في الفرح.. نعم، إن الصحيفة هي ثمرة لمعجزة، ذلك لأن تشكيل هيئة تحرير في ظرف أسبوع والاحتفاظ بمواقع الصدارة ضمن قائمة الصحف الأسبوعية، عقب ذلك بشهور عديدة، يعتبر من قبيل الأعاجيب، إن هذه المغامرة كانت صعبة لو لم يرفع عبدالعزيز كوكاس التحدي، لقد جمع حوله المجموعة التي أنجزت المعجزة، إن حبه الذي لم يتعرض للطعن أبدا، ولعمله واختياره السديد لشابات وشبان قبلوا مرافقته في هذه المغامرة كانت أمورا حاسمة”.. هل هذا يعني أني كنت ملكا منزها عن الأخطاء؟ أبدا.. ألم يساهم قرار مغادرتي “الصحيفة” في إضعافها؟ هل كان لخروجي وتحت ظل كل الاختلافات التي نشبت خاليا من غرور الذات وبحثها عن مسارها الخاص بدل معاضدة تجربة رائدة؟ ألم يكن ممكنا التعايش مع جل الإكراهات التي انبثقت بشكل غريب وفُجائي داخل “الصحيفة”؟ وهل يقبل شخص بالبدء من درجة الصفر ويترك مقاما مريحا إذا لم تكن هناك دوافع قاهرة؟ التاريخ كفيل بالإجابة عن ذلك. الملك ملك والأمير مولاي في “الصحيفة” منذ نهاية 2002، بدأت ألاحظ متغيرات عديدة داخل هيئتي تحرير “الصحيفة” و”لوجورنال” انطلق حوار مع الأمير هشام للمساهمة في الشركة المصدرة للجريدتين، وحدث اختلاف بعد لقاءات خارج المغرب وداخله، وكان الزميل بو بكر الجامعي يبوح لي ببعض مخاوفه، وأُكبر فيه إلحاحه على أن يتم دخول الأمير بشكل علني ومن خلال ندوة صحفية، ورفض الأمير هشام هذه الصيغة الواضحة، لكن الممارسات اليومية والمقالات التي أخذت تبرز داخل “لوجورنال” و”الصحيفة” بدأت تشعرني بأن قاربنا دخل متاهة أكبر من المهنة ورهاناتها أقوى من تعبير أمير عن رأيه بشكل حر، لقد أصبح الأمر كما لو أن هناك سلطة مضادة مقابل سلطة قائمة، وزاد ذلك استفحالا مع وضع الأمير هشام ملعقته في كل الطواجين الفوّارة، وكم غضب من بوبكر الجامعي حين كتب مقالا ينتقد فيه الأمير، الذي كان أميل إلى لعبة تغيير أصنام بأصنام بديلة، وأذكر مرة أننا كنا قد اعتدنا الحديث عن الملك بصفته المؤسسية “الملك محمد السادس” دون جلالته، لم يكن في ذلك أي تنقيص، بل باحترام كامل لشخص الملك دون قداسة سيسقطها محمد السادس عن نفسه في خطاب 9 مارس 2011.. كان هناك مقال عن الأمير هشام في رأس الصفحة الأولى للعدد 119 الصادر في 28 يونيو 2003، بعنوان: “بعد نقابة الصحافة والمجلس الاستشاري نجح الأمير هشام: الصحيفة تحكي تفاصيل إنقاذ حياة المرابط وسمعة المغرب”، احتج وقد يكون هذا لفظ جد مهذب أحد الزملاء على عدم ذكر اسم مولاي مقرونا بالأمير، فقلت لأننا أسقطنا جلالة عن اسم الملك، دون تقليل الاحترام عليه، فكذلك الشأن بالنسبة إلى الأمير.. بعد إغلاق العدد وذهابي إلى المنزل فجرا، سأُفاجأ في اليوم الموالي بأن العدد طبع وعليه عبارة “الأمير مولاي هشام”، ففهمت من يومها أن الملك ملك والأمير مولاي في “الصحيفة”، وأن قواعد الألفة المشتركة والاختلاف السعيد الذي كنا قد تواطأنا عليها ذهبت أدراج الرياح، وانطلقت الدسائس الصغيرة وحرب الوشايات الكيدية.. وأنزه هنا الأخ محمد حفيظ عن ذلك وتشهد علاقتنا الوطيدة حتى اليوم على هذا. إذا حافظت على استقلاليتك، فانتظر الجحيم السياسي مثل أي سلطة في علاقته بالصحافي يريد قنّا أو عبدا تابعا، لا قلما عصيا عن التملك، في 2002 كتبت افتتاحية في “البوح الممكن”، تحت عنوان: “دفاعا عن المغرب لا عن الأمير هشام”، هكذا حرفيا، كنت أدافع عن حق الأمير كمواطن مغربي للتعبير عن آرائه بشكل حر، فاتصل بي الأمير على الهاتف لمدة طويلة ظللنا نتجاذب أطراف الحديث بعدما أطرى عليّ، كان لي رأي عبرت عنه بصدق ومضيت.. لم أخضع لغواية الاستقطاب كما انخدع الكثير من الزملاء الذين وجدوا أنفسهم في مواقع لا يُحسدون عليها، ولم أكن ممن يبحث عن وظيفة سدنة المعبد.. لعل ذلك جعلني منبوذا لدى الأمير ولدى السلطة في آن. وحين أتأمل اليوم مسارات صحافيين أكفاء، بجودة مهنية عالية من لطيفة بوسعدن حتى أحمد رضى بنشمسي، والمسارات الموجعة التي انتهوا إليها، خارج حسابات مهنة الصحافة… أقول ماذا لو استمرت أحوالنا في “الصحيفة” و”لوجورنال” دون أيادي الأمير الذي يقر بوبكر الجامعي ذاته أنه لم يضع فلسا واحدا في صندوق الجريدتين، لكن كان يكفيه أنه وضع أكثر من هذا، ولما قضى وطره انقلب في سيرته على جل الصحافيين: علي عمار وعلي المرابط ولم يسلم من لسانه حتى بوبكر الجامعي الذي خبرته عن قرب وظل يحاول دوما الحفاظ على استقلاليته، وأكبرت فيه العديد من قيم النبل وإن كانت لديّ مؤاخذات ودية عليه، كما أنه بدون شك يفعل.