يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). وإذا كان أحمد تقي الدين بن تيمية قد ولد في مدينة حران، التي كانت لزمن طويل مهد الفلسفة والصابئة، فقد انتقل وهو في سن السابعة إلى دمشق مع عائلته التي هربت من مجازر التتار بعدما أغاروا على المدينة، وكانت هجرتهم في ظروف صعبة بسبب وعورة الطريق ومشاق السفر والغربة، ذلك أن والده، الذي كان أحد علماء حران، لم يشأ التخلي عن كتبه لتتعرض للحرق، ففضل حملها معه على عربة يدفعونها. ولا شك أن ذاكرة الصبي قد خزنت الكثير من مشاهد الرعب والخوف والقتل التي سام بها التتار سكان حران وجوارها، وحفظت مسامعه أخبار تلك المجازر الجماعية الوحشية، فانغرس في نفسه كره الظلم والقتل والفساد في الأرض. وقد ولد في عائلة من العلماء والفقهاء، فوالده كان من علماء الحنابلة البارزين، وهو من مواليد حران عام 627 للهجرة، ورحل إلى حلب لتلقي العلم، فسمع من علماء كثيرين درس على أيديهم، وقد قال فيه المؤرخ الكبير شمس الدين الذهبي: «قرأ المذهب حتى أتقنه على والده، ودرس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه، وخطيبه وحاكمه، وكان إماما محققا كثير الفنون، له يد طولى في الفرائض والحساب والهيئة، دينا متواضعا حسن الأخلاق جوادا، من حسنات العصر». ولا يُعرف ما إن كان ابن تيمية عربيا أم غير عربي، لأن المؤرخين الذين وثقوا سيرته لم يشيروا إلى أصوله وأصل عائلته، ويُغلب الشيخ أبو زهرة احتمال كونه كرديا، وكان للأكراد خلال القرنين السادس والسابع الهجريين مواقف بطولية في الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الصليبيين. ولعل هذا أقرب إلى الصحة، إذ تدل كتب التواريخ على أن غالبية العلماء الأكثر تشددا في الدفاع عن الإسلام ونصرته كانوا من غير العرب، بل إن العلماء الذين خدموا الحديث والتفسير واللغة كان جلهم من خارج الجنس العربي. وفي دمشق تربى أحمد تقي الدين في جو علمي وتربوي مثالي، نظرا إلى التاريخ العلمي للعائلة الذي يعود إلى أجداده الأولين، وأعمامه الذين كان بعضهم من طلاب العلم، إضافة إلى والده نفسه. وقد حفظ القرآن في سن مبكرة، ثم اتجه إلى حفظ الحديث واللغة ومعرفة الأحكام الفقهية. ولما كان والده من ذوي الصيت العالي في مشيخة الحديث بدمشق، فقد حرص على أن يتلقى ابنه عن كبار المشايخ بالمدينة، وسماع الدواوين الكبرى في الحديث كمسند الإمام أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي وسنن أبي داود السجستاني والنسائي وابن ماجة والدارقطني، وكان أول كتاب حفظه في الحديث هو «الجمع بين الصحيحين» للإمام الحميدي، وقيل إن الشيوخ الذين سمع منهم يزيدون على مائتين، وهذا كله وهو ابن بضع عشرة سنة. وكانت دمشق في ذلك الوقت مدينة العلم والعلماء، انتشرت بها مدارس الحديث والفقه، وتساكن فيها العلماء من جميع الاتجاهات ومن كل الأصقاع، إذ كانت هناك مدارس للشافعية والحنابلة والأشاعرة، وكان الحنابلة يعمدون إلى استخراج العقائد من النصوص، فيما كان يعمد الأشاعرة إلى الاستدلال العقلي عليها واعتماد البراهين، فكانت تحصل بينهم المناوشات بين الحين والآخر. وفي هذا المناخ العلمي الدمشقي الواسع انفتح ابن تيمية على كافة التيارات والمدارس وتعرف إليها، لكنه اتجه إلى المدارس الحنبلية أسوة بأبيه، ليس تقليدا بل اختيارا، فنحن سنجده لاحقا يتخذ لنفسه طريقا مستقلا، وإن خالف فيه الأئمة الأربعة، وقد قال الذهبي: «وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل ما قام الدليل عليه عنده». وقد ظهر نبوغه في سن مبكرة، وهو ما أشار إليه شمس الدين الذهبي بقوله: «فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وسرعة إدراكه، ونشأ في تصون تام، وعفاف وتأله وتعبد واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال، ومات والده وهو من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرس بعده بوظائفه وله أحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجمع على كرسي من حفظه»، ولكنه لم يكن يكتفي بما يتلقاه عن المشايخ، إذ كان لديه نوع من العصامية، حيث يقول الذهبي عنه: «وأخذ يتأمل كتاب سيبويه في النحو حتى فهمه»، وهو ما تؤكده منهجيته في مؤلفاته الغزيرة، حيث نجده يعمل ذهنه في القضايا الأكثر تعقيدا حتى ينتهي إلى حل ألغازها، وقد روى تلميذه ابن قيم الجوزية: «قلت يوما لشيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدس لله روحه- قال ابن جني: مكثت برهة إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها، وجرسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه، فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه. فقال لي رحمه الله: وهذا كثيرا يقع لي».