إن انتصار الرأسمالية في مطلع القرن الواحد والعشرين كان ساحقا. يحيل ترافيرسو في هذا الشأن إلى فرانسوا فوري (Francois Furet)، المؤرخ الفرنسي، وكتابه ماضي الوهم، الذي صدر سنة 1995، الذي يؤرخ فيه نظرته عن نهاية الفكرة الشيوعية والاستسلام للرأسمالية. يذكر أيضا فريديرك جيمسون (Fredric Jameson) الماركسي البريطاني، الذي يعترف بأنه “من الأسهل أن نتخيل نهاية العالم اليوم على أن نتخيل نهاية الرأسمالية”. إن نهاية التاريخ التي كان أعلنها فرانسيس فوكوياما، عبّر عنها آخرون في صيغ مختلفة من قلب اليسار، على غرار بيري أندرسون رئيس تحرير المجلة البريطانية الماركسية الشهيرة New Left Review. ولا يجد ترافيرسو في الانتفاضات السياسية الكبرى التي عاشها العالم بعد 1989 أي أثر للفكر اليساري، إذ أن الثورات المخملية لأوروبا الشرقية على إثر سقوط الجدار مثلا أو الربيع العربي بعد ذلك بعقدين، لم تكن سوى دعوات لتكرار نماذج كلاسيكية لليبرالية كالحرية والتمثيلية السياسية. يقرأ ترافيرسو زمن الذاكرة، الفترة التي أصبح فيها التذكر ظاهرة مميزة في حقل العلوم الإنسانية في الثمانينيات، ومهيمنا بعدها، باعتباره التعبير الأوضح عن ميلونكوليا اليسار، أطروحته المركزية. إن المذكرات تعني موت الأوتوبيا، وتنعى الموت النهائي للماركسية. في ما قبل 1989 كانت الذاكرة ذاكرة للمستقبل تعلن عن معارك قادمة، وكان اليسار يعتبر التراجيديات وهزائم الماضي دَينا هو في نفس الوقت وعد بالخلاص القادم. لكن التذكر بعد 1989 أصبح تذكرا لماضي لا ينبض، لتجربة منتهية، مؤرشفة، لا أمل في عودتها. ولم يعد التذكر دعوة للفعل، بل أصبح يعوض الفعل. وهو ما عبر عنه ترافيرسو بالتعبير: “عندما تدخل الذاكرة يخرج ماركس”. يحيل ترافيرسو إلى مجموعة من اللوحات والملصقات والأفلام لقراءة هذه الحالة التراجيدية. من بينها على سبيل المثال فيلم النظرة المتفحصة لأوليس (Ulysses Gaze)، الذي ظهر سنة 1995 للمخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس (Theo Angelopoulos)، الذي خصصه للحرب في يوغوسلافيا السابقة، وحيث لقطة التمثال المحطم للينين محمولا على ظهر مركب يعبر نهر الدانوب نحو مقبرة تماثيل العهد الغابر، وسبّابته موجهة نحو السماء، تعبير كئيب عن النهاية التراجيدية للأوتوبيا الشيوعية. هل هناك من مخرج؟ يعتبر ترافيرسو أن الوعي بالحالة الميلونكولية بداية ضرورية للبحث عن مخارج. إنه يسعى إلى أن ينتقل بالميلونكوليا من حالة مرَضية إلى خطوة تسبق الحداد، وتسمح به وتمكّن المرء من أن يسترجع نشاطه ويصبح فاعلا مرة أخرى. ولذلك، فالكتاب يعتبر مساهمة للدفع نحو هذا التوجه. ولكي يدعم أطروحته نظريا يسترجع كاتبين لهذا الغرض: والتر بنيامين (Walter Benjamin)، الفيلسوف الألماني، والفرنسي دانييل بنسعيد . (Daniel Bensaid). كان بنيامين عايش هزيمة الحرب الاشتراكي الألماني سنة 1919 وصعود النازية، ولم ينكر الميلونكوليا التي خلفتها هذه الهزيمة البالغة المرارة للمشروع الاشتراكي، ولكنه عِوض الاستسلام لهذه الحالة النفسية المحبِطة، دعا إلى تسييسها عن طريق مقاربة متعارضة مع التاريخانية التي تتبنى فهما حتميا لتاريخ مقفل. وطرح أن التاريخ منفتح على اتجاهات متعددة، على خلاف التصور السائد وقته في صفوف اليسار، وأنه (التاريخ) ليس حركة تسير في خط مستقيم منتظم، بل هو شجرة بفروع متعددة. وبنظرة متعارضة مع الأطروحات التاريخانية الصارمة، ومتشبعة بأمل ديني في خلاص مقبل، توقّع بنيامين أن حدوث الثورة احتمال غير مستبعد. خصص ترافيرسو الفصل الأخير من كتابه لدانييل بنسعيد، باعتباره يشكل امتدادا لبنيامين وأطروحاته حول التاريخ المفتوح. في كتابه ‘”أنا، الثورة” (Moi, La revolution, 1989)، يعبّر عن إحساس عميق بالميولونكوليا، لكنه يقترب من بنيامين في كون أن التاريخ غير مقفل وغير متوقع. يقول بنسعيد محيلا إلى غرامشي، إن الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نتنبأ به عمليا هو النضال الذي لا يلغي احتمال قدرة الإنسان على أن يغير مجرى التاريخ. لقد بقيت نصوص ترافيرسو انتقائية. ولا شك أننا سنعثر في خضم الغزارة الهائلة في الإنتاج الفكري على المستوى العالمي نصوصا أو إنتاجات فنية، تسير في اتجاهات مختلفة مع أطروحة ترافيرسو. أذكر على سبيل المثال الكتابات التي ظهرت خاصة على إثر الأزمة المالية لسنة 2008، التي تتحدث عن انتعاش الماركسية، وعودة ماركس، على غرار الماركسي البريطاني تيري إيغلتون Terry Eagleton، الذي أصدر كتابا سنة 2011 بعنوان: ‘”لماذا كان ماركس على حق”. بل إن الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي (Thomas Pickety) تحول إلى نجم عالمي بعد النجاح الكبير الذي عرفه كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” الذي صدر سنة 2013، والذي ترجم إلى العديد من اللغات وحصل على العديد من الجوائز. وها هو اليوم يصدر كتابا جديد بعنوان “رأس المال والإيديولوجيا”، يتابع فيه مشروعه في البحث عن تجاوز الرأسمالية وعن بدائل لها. نجد صدى لهذا التوجه في المغرب أيضا. فعلى سبيل المثال، خصصت مجلة النهضة سنة 2019 عددا بعنوان: “الماركسية اليوم”، من بين نصوصه مقال لنور الدين العوفي، مدير المجلة، يدافع فيه عن راهنية ماركس .6