بعد تاريخ طويل من إحجام المغاربة عن إصدار مذكراتهم، يشهد المغرب منذ بضع سنوات، فورة في إقدام أسماء بارزة في التاريخ السياسي المغربي على نشر ذكرياتهم عن التاريخ الذي عايشوه. يمكن قراءة هذه النصوص كمساهمة مغربية متأخرة فيما اعتُبر على المستوى العالمي “زمن الشهادة،” أو زمن “الشاهد،” في إحالة إلى النصف الثاني من القرن العشرين. كان الشكل الغالب للشهادات في المغرب هو استجوابات مطولة لشخصيات ارتبطت بشكل من الأشكال باليسار المغربي. تحتاج هذه النصوص إلى قراءات من مداخل أكاديمية متنوعة، لإغناء فهمنا للثقافة السياسية المغربية، من خلال الكيفية التي صاغ بها أصحابها مساراتهم السياسية وتصوراتهم الفكرية بارتباطها بالسياق التاريخي الذي عاشوه. وتتطلب هذه القراءات البحث عن التجارب الأكاديمية المفيدة في هذا المجال. والكتاب المقترح في هذا النص مؤهل لأن يوحي بمقاربات جديدة للمهتمين بمواضيع المذكرات، والذاكرة، واليسار المغربي. عنوانه ميلونكوليا اليسار: الماركسية، التاريخ، والذاكرة، صدر سنة 2016 لمؤلفه إنزو ترافيرسو، وهو مؤرخ إيطالي يدَرّس حاليا بجامعة كورنيل بالولايات المتحدة. ملخص أطروحته هو أن اليسار على المستوى العالمي، خلال تاريخه الممتد منذ كومونة باريس سنة 1871 إلى سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1989، عاش سلسلة من الانتكاسات والهزائم، ولكنها مع ذلك لم تحل دون استمراره كمشروع سياسي وفكري نافذ. إلا أن 1989 وضعت الحد النهائي لهذه الأوتوبيا، وأدت بذلك إلى ميلونكوليا لم يشهد اليسار مثيلا لها في السابق. يقتبس ترافيرسو مفهوم الميلونكوليا من كتاب الحداد والميلونكوليا الذي أصدره سيغموند فرويد سنة 1915 في أجواء ما بعد الحرب العالمية الأولى، والذي يكشف فيه الطابع المرَضي للميلونكوليا الذي تبدو بعض مظاهره في “التوقف عن الاهتمام بالعالم الخارجي، وفقدان القدرة على الحب، وكبت ممارسة كل نشاط…”. تتميز الميلونكوليا عن الحداد بكون أن الأخير إحساس انتقالي، بينما الميلونكوليا هي وضعية دائمة. “إن الميلونكوليين لا يرغبون في التخلي عن حالة الكآبة والألم”. ولذلك، ففرويد اعتبر الميلونكوليا حالة مَرَضية لحداد مستحيل. (ترافيرسو صفحات 139-140). يرى ترافيرسو أن اليسار يعيش هذا الحداد المستحيل بعد أن أصبحت الشيوعية أوتوبيا مفقودة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وعلى عكس ما حدث في الماضي، فإن هذا الفقدان أصبح نهائيا ولا يمكن تعويضه أو تجاوزه. لا يحصر ترافيرسو تعريف اليسار في الأحزاب التي تمثله، ولكنه ينظر إليه من حيث أنه “حركات كافحت لتغيير العالم من خلال جعل مبدأ المساواة ركنا مركزيا في برامجها”. ونظرا إلى التنوع الكبير في صفوف اليسار ومكوناته الثقافية، فإن ترافيرسو لم يقتصر على النصوص المكتوبة، بل وسّع مادة مراجعه لتشمل الملصقات واللوحات والأفلام التي لا تنحصر في طرح الأفكار، بل تعبّر عن المشاعر التي يُصرّ الكاتب على أن يوليها نفس قيمة التعابير الإدراكية. تحتل الميلونكوليا موقعا متميزا ضمن هذه المشاعر، وهو موضوع اعتبر ترافيرسو أن الانتاجات الفنية تمَكّن من الإمساك به بشكل أفضل من النصوص المذهبية ومن الجدالات النظرية. لا تقتصر أطروحة ترافيرسو على الكشف عن مظاهر ميلونكوليا اليسار ووصف خصائصها المميزة في الفترة الحالية (ما بعد 1989)، بل هو يسعى إلى أن ينقل الميلونكوليا من حالة مرَضية محبِطة إلى خطوة تسبق الحداد، وتسمح للمرء بأن يسترجع نشاطه ورغبته في الفعل. تتطلب هذه المهمة فهما دقيقا لما يميّز الشعور بالإحباط الذي يعيشه اليسار في العقود الثلاثة الأخيرة بسبب الانتكاسات التي عاشها اليسار منذ بدايته في تجارب متنوعة عبر العالم. إن لائحة الانتكاسات السابقة ل 1989 طويلة، إلا أن كل انتكاسة مع ذلك حملت معها بوادر الأمل في تجاوزها. تعد كومونة باريس سنة 1871 أول تجربة ثورية يسارية، وبالرغم من أنها لم تدم إلا شهرين، وأنها انتهت باندحار الثوار، فإنها حملت بوادر نجاحات لاحقة. إذ بعدها بثلاثة عقود، شهد العالم صعود أحزاب اشتراكية قوية في كل الدول الأوربية. وعلى إثر نهاية انتفاضة حركة الإسبرتكيين (Spartacists) وهزيمة الحزب الاشتراكي الألماني، كتبت روزا لوكسمبورغ في يناير 1919، قبيل مقتلها، واعدة بالنصر رغم الهزيمة. وكذلك كان الأمر في حالات ليون تروتسكي في الاتحاد السوفياتي بعد طرده من الحزب الشيوعي سنة 1927، وفي ألمانيا بعد وصول أدولف هتلر إلى الحكم سنة 1933، واندحار الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1939، وبعد ربيع براغ القصير سنة 1968، ومقتل تشي غيفارا في بوليفيا سنة 1967، والانقلاب الذي أسفر عن الإطاحة بسالفادور أليندي ومقتله في الشيلي سنة 1973. في كل هذه الأحداث، ظل اليساريون يعتبرون أن انتكاساتهم كبوات في معارك مستمرة، وليست هزيمة في حرب منتهية، وبقي الإيمان راسخا في صفوفهم بأن الثورات لا تسير إلا في منحى تصاعدي. الأمر سيختلف كلية في الفترة ما بعد 1989 حسب ترافيرسو. إذ على عكس الهزائم السابقة التي كانت تحرّر طاقات ثورية متجددة، أدت نهاية اشتراكية-الدولة بسقوط المعسكر الشيوعي إلى توقف المسار التاريخي للاشتراكية. وبعد أن كانت الشيوعية دخلت القرن العشرين كوعد بالتحرر، خرجت منه كرمز للاستيلاب والقمع، وفتح القرن الواحد والعشرون الباب لعالم بدون أوتوبيات، عالم الاستسلام والاستقالة والشلل، تحولت فيه الشيوعية إلى مورد روحي منهك. لم يملأ هذا الفراغ إلا الموجة النيو-ليبرالية بكل ما تحمله من فردانية وعيوب، ولم يعد هناك مخرج من القفص الحديدي للواقع، واقع النيو-ليبرالية. اليسار انتهى وليست هناك أوتوبيا بديلة قادرة على تعويضه. هذا هو الحداد المستحيل، ميلونكوليا اليسار كما يقدمها ترافيرسو.