إذا كان فيروس كورونا قد فرض على الدول عزل نفسها، فقد أتاح من جانب آخر للتقنية أن تتسيّد العالم. يبدو لي اليوم أن التقنية أضحت الوسيلة الرئيسة للتعايش، ولا نعلم كيف كان يمكننا العيش هكذا في بيوتنا دون الأنترنت، لا شك أنه سيكون عالما رتيبا وأكثر مدعاة للقلق والخوف، بل قد يكون عالما دون أي معنى. لقد فرض هذا الفيروس نظاما كاملا للعزلة، لكن التقنية كسّرت ما أراد، وأتاحت للإنسان أن يحافظ على بعض هيبته. فرض الفيروس نظاما للتباعد الاجتماعي، لكن التقنية أتاحت، وبسرعة، نظاما للتقارب الافتراضي. صحيح أننا قابعون اليوم في بيوتنا بقوة غريزة حفظ البقاء، لا نتحرك إلا بإذن السلطات العمومية، وداخل محيط سكنانا. ومنذ غلق الحدود البرية والجوية والبحرية، لم يعد ممكنا تنقل البشر خارج بلدانهم إلا لضرورة قصوى. لكن هذا التوجه نحو تعزيز نظام العزلة من لدن الدول، تكسّره التقنية من الجانب الآخر، وبشكل تدريجي، تتحول حياتنا الواقعية إلى حياة افتراضية بالكامل. كل شيء نقوم به اليوم يقع عن بُعد؛ العمل، التعليم، التجارة، وحتى السياحة، وصولا إلى الاجتماعات واللقاءات. لقد تسيّدت التقنية كل الفضاءات الإنسانية، وحوّلتها من فضاء عمومي واقعي إلى فضاء عمومي افتراضي. أبعد من ذلك، أتاحت التقنية للإنسان في بعض الدول، مثل الصين وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية، استعمالها في مواجهة فيروس كورونا، ففي الصين تُستَعمل الروبوتات لكشف المرضى، بهدف منع الاختلاط بين الحالات المصابة والأطباء والممرضين حفاظا على هؤلاء من العدوى، وتوفر الروبوتات، لهذا الغرض، بيانات كاملة حول المريض المصاب بالفيروس، ويبقى للأطباء تحديد نوعية العلاج فقط. في بلدان أخرى، ومنها المغرب، يجري اللجوء إلى طائرات مسيّرة «الدرون» لتوعية المواطنين بمخاطر الفيروس ونصحهم بالتزام إجراءات الحجر الصحي، بل قد تستعمل في التطهير والتعقيم كذلك. لا بد من الإشارة هنا إلى أن مشهد تحليق طائرة مسيّرة انطلقت من الجامعة الدولية بمدينة سلا للقيام بمهام التوعية، كان مشهدا يبعث على الفخر، ودلالة أيضا على الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه بلادنا. في الصين، أتاحت تكنولوجيا الجيل الخامس فرصا أكبر، من خلال ربط كل تلك الوسائل (الدرون، الهواتف، الكاميرات…)، بعضها ببعض، واستعمالها في تعقب المرضى الجدد والمحتملين، بشكل قبلي وبعدي، أي تعقب المريض الجديد مثلا من لحظة تأكد إصابته، بشكل قبلي، للتعرف على كل الطرق التي مّر منها لتعقيمها، والمخالطين الذين التقاهم لتحديد هوياتهم، وهكذا، وصولا إلى اللحظة التي تأكدت فيها إصابته. إن التعقب والمراقبة، بهذا الشكل، يُسعفان في تحديد بؤر العدوى المحتملة قبل أن تظهر، والتدخل بكيفية قبلية لاحتوائها. إن الخدمات التي تقدمها التقنية للمجتمعات لا تقدر بثمن، لكن يبدو أن البعض يتجه إلى استغلال الوباء ذريعة لاستباحة المواطنين، من خلال تعزيز أنظمة المراقبة الشاملة التي تستبيح الأفراد بحجة الأمن. وهي إيديولوجيا أمنية انبثقت من قلب المجتمع الليبرالي. في 1990، عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، تحدث الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز، عن مفهوم «مجتمعات المراقبة»، بديلا عن مفهوم «المجتمعات التأديبية»، بالمعنى الذي أسّسه جريمي بنتام عقب الثورة الفرنسية، ونظّر له ميشيل فوكو في «المراقبة والعقاب». لقد جمع دولوز شتات وقائع وعلامات متفرقة عن تحول آتٍ، عزاه إلى التكنولوجيات الجديدة حينها، التي باتت تسمح للدول بمراقبة الأفراد، الذين صاروا مجرد أرقام وكلمات سرّ، يجري التعامل معها انطلاقا من آثارها السلوكية المخزنة في بنوك معطيات. في 2007، تحدث أرمان ماتلار عن مفهوم «المراقبة الشاملة»، وذلك في سياق الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 شتنبر 2001، حين لاحظ أن الديمقراطية الليبرالية باتت تقبل التعايش مع أنظمة الطوارئ، ما أفضى إلى مزيد من تدخل الأجهزة الأمنية في الحياة العادية واليومية للأفراد أينما كانوا عبر العالم، وقد جرى اختراع التقنيات التكنولوجية اللازمة لهذا التدخل/المراقبة الشاملة. الراجح اليوم أن فيروس كورونا قد يعزز من مسلسل المراقبة هذا، كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أغامبين، بقوله: «بمجرد استنفاد الإرهاب مبررا لتدابير الطوارئ، فإن اختراع الوباء قد يوفر الذريعة المثالية لتمديدها إلى ما هو أبعد من كل الحدود». بالنسبة إلى أغامبين، فإن فيروس كورونا أكد مرة أخرى وجود «اتجاه متزايد إلى استخدام حالة الطوارئ براديغم طبيعيا للحكم».