رأينا في الصفحات السابقة كيف أن محمد شحرور يسطو على تعريف للمحكم والمتشابه للشيخ الزرقاني ويعيد ترجمته بأسلوبه، مقدما تلك الترجمة أو السرقة باعتبارها من ابتكاره ضمن ما يسميه «القراءة المعاصرة» للقرآن. وفي هذا السياق من الواجب تكرار ما قلناه سابقا غير مرة، وهو أن المهندس شحرور يؤثث تلك القراءة المعاصرة المزعومة بالهجوم على ما يسميه «المنظومة التراثية» لكي يعطي لمقولاته طابع المعاصرة والتجديد أمام القراء البسطاء، حيث يبدو مثل الفارس الذي لم يجرب حربا لكنه يحاول أن يمنح نفسه نوعا من الاعتبار باختلاق عدو وهمي من الحجم الكبير، إذ كلما كان العدو الوهمي من مستوى عال، ارتفعت قيمة الفارس أمام الآخرين. وشحرور يستعير هذه القيمة من مهاجمته التراث الإسلامي، حتى وإن كان يفعل ذلك دون الاستناد إلى أدلة علمية، بل بالتقول على التراث وتحريفه أو إساءة فهمه. ويحوي كتابه «أم الكتاب وتفصيلها» على نماذج من تلك المزاعم غير العلمية التي يحشوها شحرور حشوا، في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو المحكم والمتشابه. إن الكتاب الرئيس لشحرور هو «الكتاب والقرآن»، ومجموع ما نشره من كتب لاحقة ليس سوى تفصيلات وتفريعات لفصول ذلك الكتاب الأول، حتى إننا نكاد نذهب إلى القول بأن الاطلاع على ذلك الكتاب يغني تماما عن الاطلاع على كتبه الأخرى، بيد أن التفصيلات والتفريعات تستحق الاحتفاء بها، لأنها تزيدنا اقتناعا بتهاوي وتهافت منهج شحرور، إذ كلما توسع في التفصيل، برزت المطبات. يعتبر شحرور أن قضية المحكم والمتشابه في القرآن تشكل جزءا من مشكلة المفاهيم في «التنزيل الحكيم»، ومن ثم فإن مهمته هي إعادة وضع القطار على السكة، يقول: «بناء على ذلك، نحن نريد إصلاح هذا الخطأ المعرفي الفادح من خلال إصلاح قاطرة تاريخنا الفكري التي تعطلت وتوقفت في محطة القرن الثالث الهجري، حيث فقد التنزيل الحكيم بسبب ذلك صفة القراءة المعاصرة، وظل قطارنا المعرفي قابعا في تلك الحقبة الزمنية دون حراك»، ثم يضيف: «وقد قمنا في هذا الكتاب بتطبيق قراءتنا المعاصرة على موضوع المحكم والمتشابه، إيمانا منا بأن آيات التنزيل الحكيم بحاجة إلى إعادة فرز بأسلوب منهجي دقيق غير متناقض، حيث تتبعنا المفاهيم التي تحملها الآيات حول المصطلحين المتشابه والمحكم وما يرتبط بهما من مواضيع ذات علاقة، كالتأويل والاجتهاد، وتوصلنا بفضل تطبيق منهجنا إلى مفاهيم تختلف تماما عن تلك التي ورثناها عن المنظومة التراثية» (أم الكتاب. ص 20). إنه هنا يدبج كلاما يبدو في ظاهره ناتجا عن منهج علمي صارم واطلاع واسع على التراث، بالنسبة إلى القارئ العادي البسيط، فهو يدعي أن التاريخ الفكري للمسلمين توقف عند القرن الثالث، أي أن هناك تأخرا يقدر بنحو اثني عشر قرنا كاملة. وبالنسبة إلى القارئ البسيط، فإن حكما قاسيا مثل هذا لا يمكن أن يصدر إلا عن باحث متبحر خاض غمار التراث، لا عن باحث صغير يلم شتات أفكاره ولا يملك منهجا. ثم إنه يدعو إلى «أسلوب منهجي دقيق غير متناقض» في دراسة القرآن، ثم يضيف للمرة الأخيرة أن «منهجه» أوصله إلى مفاهيم «تختلف تماما عن تلك التي ورثناها عن المنظومة التراثية». لكن التنزيل العلمي لذلك الكلام ينطبق عليه المثل العربي «تمخض الجبل فولد فأرا»، حيث عوض المنهج الذي بشرنا به، يأخذنا إلى حالة من الفوضى غير المنضبطة لأي منهج علمي على الإطلاق، بقدر ما هي حالة تيه فكري أقرب ما تكون إلى الهلوسة. لقد رأينا في الصفحات السابقة أنه لا يكتفي بالتقسيم الثنائي للقرآن إلى متشابه ومحكم، بل يضيف قسما ثالثا يسميه «تفصيل الكتاب»، بناء على تفسير عشوائي للآية: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات» (انظر الحلقة 32 من هذه السلسلة). لقد ذكر ذلك التقسيم الثلاثي في كتاب «الكتاب والقرآن» (ص 120-121)، وهو لم يكتف بذلك التقسيم، بل حمل على المفسرين والعلماء لأنهم لم يتوصلوا إليه، حيث قال إن عدم الاهتداء إلى ذلك التقسيم «معضلة وقع فيها الكثير ممن عملوا في علوم الكتاب». إلا أنه في كتاب «أم الكتاب وتفصيلها» يبتدع تقسيمات أخرى أكثر تهافتا، حيث يقول: «توصلنا بفضل تطبيق منهجنا إلى مفاهيم تختلف تماما عن تلك التي ورثناها عن المنظومة التراثية، إذ نتج عندنا تقسيم ثلاثي لآيات التنزيل الحكيم، حيث وجدنا أن هناك قسم المتشابه وقسم المحكم، وقسم اللامحكم-اللامتشابه، ويشمل آيات تفصيل المتشابه، وآيات تفصيل المحكم، وآيات تفصيل الكتاب» (أم الكتاب. ص 20). ولا نعتقد أن هناك هلوسة أكثر من هذه. لقد قسم الكتاب -أي القرآن كما نعرفه- إلى محكم ومتشابه و«تفصيل الكتاب»، وعرف هذا القسم الأخير بأنه الآيات التي تشرح «محتويات الكتاب»، ثم أصبح هناك تقسيم ثلاثي جديد هو المحكم والمتشابه واللامحكم-اللامتشابه. ولنفترض أن هذا القسم الجديد المركب تركيبا مزدوجا هو «تفصيل الكتاب» نفسه المشار إليه جدلا (نقول جدلا فقط، لأن «تفصيل الكتاب» شيء واللامحكم-اللامتشابه شيء آخر. ذلك أن التفصيل يعني شرح أو تفسير ما هو غير مفصل، فيما اللامحكم-اللامتشابه يعني أنه غير محكم وغير متشابه فحسب، ولا يعني التفصيل لزوما)، فكيف صار هذا القسم الثالث مقسما إلى فروع؟ إن محمد شحرور يضعنا حقا أما لعبة دائرية دون مسلك، فبعدما كان لدينا «تفصيل الكتاب» فقط، صارت لدينا ثلاثة أنواع من آيات «التفصيل»، آيات تفصيل المتشابه، وآيات تفصيل المحكم، وآيات تفصيل الكتاب؛ هذا القسم الأخير هو نفسه القسم الثالث في التقسيم الأول الذي وضعه في كتابه «الكتاب والقرآن»، فكيف صار بجانبه تفصيل المحكم وتفصيل المتشابه؟ وكيف يمكن أن نفهم وجود المحكم والمتشابه منفصلين مع بعضهما عن باقي الكتاب، ثم وجود كتاب لديه تفصيل خاص، هو غير التفصيلين الخاصين بالمحكم والمتشابه؟ إنه المنهج «العلمي» الذي يبشرنا به محمد شحرور، منهج اللامنهج.