لقد حاول محمد شحرور أن يقدم مساهمة علمية جديدة في نقد النص الديني، وتسليط الضوء على القرآن الكريم،انطلاقا من رؤية جديدة أساسها اللغة العربية، على اعتبار أن النص القرآني هو نص لغوي أساسا. هذه هي الفكرةالجوهرية في نقد الدكتور إدريس الكنبوري نظريات شحرور. وهو يرى أن هذا المفكر المشرقي نظر إلى المفسرينالقدامى، ووجد أنهم لم ينجحوا في الاقتراب من النص القرآني بسبب تخلف العلوم في عصرهم، وعدم انفتاحهم علىالعالم، لذلك، نظروا إلى القرآن نظرة شمولية منبهرين بنظرية الإعجاز البلاغي التي سدت في وجوههم جميع الأبوابإلى النص، وتجاوز حالة الانبهار التي استمرت عدة قرون. يخلص الكنبوري إن المساهمة الكبرى لشحرور هي تفكيك النص القرآني إلى عناصره المختلفة، بدل النظر إليه ككتلةواحدة كما فعل السابقون، حيث ميز بين القرآن والكتاب وأم الكتاب والسبع المثاني وتفصيل الكتاب، فأصبحنا أمامنظرة معاصرة غير مسبوقة تجمع بين التراث والحداثة. في هذه الحلقات، تطوير لهذه المناقشة، ودعوة أيضا إلى النقاش. غير أن اقتراح الدكتور شحرور استبدال عبارة القرآن بعبارة الذكر لكي تنحل «المعضلة الكبرى التي نشأت بينالمعتزلة وخصومهم» يصطدم، أولا وقبل كل شيء، بشحرور نفسه، حيث إن «المعضلة الكبرى» تنتقل إلى كتابشحرور نفسه، من خلال الاضطراب الذي يطبع مفهوم الذكر لديه. وكما أوضحنا أعلاه، يخلط شحرور بين الذكربمعنى القرآن والذكر بمعنى التذكير والذكر بمعنى السمعة والصيت، أي «الذكر الحسن». ولا يتوقف الخلط عندهذه المعاني الثلاثة، بل يضيف معنيين آخرين؛ المعنى الأول بجعل الذكر يعني اللغة العربية، والمعنى الثاني الذييجعل الذكر يدل على مجرد الترتيل. ففي معرض حديثه عن الآية: «وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، قال: «هنا يجب أن نفهم أن أهل الذكر هم أهل اللسان العربي» (ص63)، فقد جعل كل من يتحدث اللغة العربية أهلالذكر، خلافا لما هو معروف لدى جميع المفسرين قديما وحديثا، وهو أن أهل الذكر تعني العلماء الذين يستنبطونالأحكام من الأدلة الشرعية. وإذا تتبعنا منطق الدكتور شحرور، الذي يكرر بين الحين والآخر أنه يحتكم إلى«العقل»، في تعريض صريح بالعلماء والفقهاء وكأنهم يفكرون من خارج منطقة العقل، إذا تتبعنا المنطق نفسه فإننانتساءل: إذا كان كل من تكلم العربية من أهل الذكر، فإلى من يا ترى تتوجه الآية بالخطاب؟ هل إلى غير العرب الذينلا يفقهون العربية والقرآن نزل بلسان عربي، أم إلى العرب وهم أهل ذكر، لكي يلتمس منهم أن يسألوا أنفسهم؟ هذا من ناحية المعنى الأول، أما من ناحية المعنى الثاني للذكر، الذي هو الترتيل، فإن الدكتور شحرور يقترحه عليهاعندما يتطرق إلى الآية: «أقم الصلاة لذكري»، حيث يرى أن الذكر هنا يعني ترتيل آيات القرآن، يقول تعقيبا علىالآية: «وعندما قال الفقهاء: إن الصلاة لا تجوز إلا باللسان العربي فهذا صحيح، لأن المطلوب في أثناء الصلاة هوالتلاوة الصوتية للكتاب لا فهم الكتاب، لذا قيل عن القرآن: إنه المتعبد بتلاوته، فالقرآن يتلى (وأن أتلو القرآن – النمل92)» (ص63). ويمكننا أن نقف بعض الشيء عند هذا الكلام لنفحص تناقضاته، قبل العودة إلى الذكر، لأن منهجية الدكتور شحرورغير منضبطة ولا تتسم بالاتساق المنهجي. فأولا، هناك خلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة باللغة العربية فقط دونغيرها، إذ هناك من يبيح الصلاة بغير العربية وهناك من يمنعها، وهناك من يبيحها بالنسبة إلى الداخل حديثا فيالإسلام تيسيرا عليه ريثما يتعلم العربية، فهي مسألة خلافية، لكن الدكتور شحرور يبني عليها قاعدة لإسنادأطروحته حول مفهوم الذكر، ومعلوم أنه لا يمكن عقلا بناء قاعدة علمية على مسألة غير مستقرة يحيط بها الخلاف،اللهم أن يكون الدكتور شحرور من أنصار الفريق الثاني الذي يمنع كليا الصلاة بغير العربية. ثانيا، يدافع شحرور عن موقف غريب لو صدر عن أي باحث، فما بالك أنه صادر عن باحث ينادي بالعقل ويتهمالمسلمين بأنهم لم ينتجوا «نظرية علمية»؟ إنه يدعي أن المطلوب من المسلم في الصلاة مجرد «التلاوة الصوتيةللكتاب لا فهم الكتاب»، أي الترديد الببغائي من دون فهم معاني ما يقرأ. والذي يثير في هذا الموقف الشحروري أنهمن جهة صادر عن كاتب يتهم في كتاباته المسلمين السابقين بأنهم لم يتدبروا القرآن جيدا، وبأنهم بحاجة إلى قراءةواعية له، لكنه في الوقت نفسه لا يتردد في الدفاع عن رأي يعزز الجهل بالقرآن، عبر الدعوة إلى الترتيل دون الفهم،ومن جهة ثانية، يكشف جهل الدكتور شحرور بالفقه الإسلامي، مع أنه ينادي بتجديد الفقه، بما يعني أنه أحاط بهوأدرك أنه استنفد أغراضه. فالمعروف أن من شروط استكمال الصلاة الخشوع، وأن الخشوع لا يمكن أن يحصلللمصلي دون تدبر لما يقرأ، كما أن القرآن يلح في كثير من الآيات على تدبر القرآن مثل قوله تعالى: «كتاب أنزلناه إليكمبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب»، وقوله: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟»، وقوله أيضا: «أفلايتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»، وغيرها من الآيات، فكيف تجاوز الدكتور شحرورعن جميع هذه الآيات وهو الذي يصرح بأنه قام بإجراء «مسح» للقرآن. ومن غريب التفسيرات التي جاء بها شحرور، في السياق ذاته، تفسيره عبارة «المتعبد بتلاوته» التي ترد عند الفقهاءفي التعريف الشهير للقرآن بأنه «كلام الله، المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز في لفظه ومعناه،المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته»، إذ نظر إلى العبارة نظرة سطحية، وفهم الترتيل على أنه تحريك الشفاه بالقراءةدون حضور العقل والقلب، وجعل التعبد قاصرا على تلك التلاوة الآلية، وهو فهم غريب جدا للتعبد عند الدكتورشحرور، يقترب من مفهوم تقدمة القرابين، إذ كيف يكون هناك تعبد مع غياب الوعي؟ وقد نسي شحرور، في عملية«المسح» التي قام بها، قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به» (القيامة 16)، وهي آية واضحة في ذم التلاوةالسريعة أو مجرد التلاوة دون حضور الوعي ودون تدبر، وفي ذم «التلاوة الصوتية للكتاب». وهنا أيضا نجد الترادف بشكل واضح عند الدكتور شحرور، الذي يبني «نظريته» في الفصل بين الكتاب والقرآنعلى إنكاره. فنحن نلاحظ في هذه الفقرة وحدها ترادفا صريحا، إذ استعمل الكاتب عبارة الكتاب محل القرآنوالقرآن محل الكتاب، حيث قال: «فهذا صحيح لأن المطلوب في أثناء الصلاة هو التلاوة الصوتية للكتاب لا فهمالكتاب، لذا قيل عن القرآن: إنه المتعبد بتلاوته»، فهناك التلاوة الصوتية للكتاب، وهناك القرآن المتعبد «بتلاوته»،فتكون الصيغة: التلاوة الصوتية للقرآن المتعبد بتلاوته، إذ لا يمكن أن تعود التلاوة إلى شيئين منفصلين، بل هي تلاوةلشيء واحد، هو القرآن الذي هو الكتاب، والكتاب الذي هو القرآن..6