لا أتذكر أين قرأت تلك القصة التي تتحدث عن شكوى مثقف عربي من صعوبة نصوص هايدغر، وعزا الأمر لأخطاء، ربما، وقعت في ترجمة كتاباته، معتبرا أن فهم هايدغر يمر حتما من قناة إتقان الألمانية، فرد عليه كاتب ألماني كان حاضرا: نحن، كذلك، نحتاج لمن يترجم لنا هايدغر من الهايدغرية نحو الألمانية.. استحضرت هذه القصة مدخلا لطرح أسئلة حول كلمة العروي الأخيرة بمناسبة افتتاح كرسيه بكلية آداب الرباط، فلطالما استغلقت علينا عبارة العروي، ولطالما قرأنا تأويلات متباعدة لنصوص له.. فكأننا لسنا أمام العروي كما هو، بل العروي كما نشيده، وكما نعيد تشييده. تحدث العروي في كلمته الأخيرة المفعمة بحديث الثنائيات عن محاور كثيرة، مما جعل نصه الشفهي شذريا، ربما لأن المقام يحدد المقال عنده، فالمناسبة أقرب للتكريم، وليست من جنس المحاضرات التي كان يخوض غمارها بموضوع واحد رئيس (عوائق التحديث، القاضي والمؤرخ…). على أننا يمكن أن نجازف، ونبئر كلمة العروي في ثلاث قضايا رئيسة: الدولة الوطنية، الأمية، الترجمة.. لا أدري لماذا اعتبر كثيرون حديث العروي عن بدايات انحلال الدولة الوطنية كشفا مفاجئا، والحال أنه نقاش لم يهدأ منذ انهيار جدار برلين، وتوازي صعود الكيانات ما فوق الدول الوطنية وما تحتها، فقد شكلت الاتحادات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، والمنظمات الإقليمية التي تضم دولا متقاربة جغرافيا والمؤهلة للتحول نحو أشكال حكم كونفدرالية، وحتى الشركات العابرة للقارات تحديات لمفهوم السيادة الوطنية أساس الدولة الوطنية الحديثة، وإذا كان هذا صنيع الكيانات ما فوق الدولة الوطنية، فإن حروب البلقان وتفكك الاتحاد السوفياتي والنزاعات العرقية بإفريقيا، وكل هذا غير مفصول عن مخططات لإعادة تشكيل خريطة العالم أدى بدوره لانهيار دول وطنية كانت قوية، وتفككها لدول صغيرة على أساس انتماءات إثنية أو دينية، أي انتماءات ما قبل وطنية.. لكن فجأة انبعثت الدولة الوطنية القومية بقوة في السنين الأخيرة مقاومة أشكال إفراغها من محتواها السيادي بفعل العولمة النيو ليبرالية، وتكفي أمثلة روسيا والصين وتركيا وإيران، وهي دول بأسواق داخلية كبيرة، ويبني السياسيون فيها شرعياتهم على مفهوم قوة الدولة، كما أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا كان محمولا على شعارات إعادة الاعتبار للدولة الوطنية (فرنسا، إسبانيا، إيطاليا..)، ومن تجلياته الكبرى «البريكسيت» ورفض الاسكتلنديين والإيرلنديين الانفصال عن بريطانيا. هو صراع إذن، في الغرب المتقدم بين راديكاليي الدولة الوطنية، وبين إعصار عولمة الأسواق النيو ليبرالي. قد يعترض قائل بأن العروي كان يتحدث فقط، عن العالم المسمى عربيا، مدفوعا بما يحصل في سوريا واليمن والعراق وليبيا، وهنا ألا يصح طرح السؤال الموجع: متى تشكلت الدولة الوطنية الحديثة في هذه المنطقة؟ هي دول ولدت بطريقة غير طبيعية وفق تقسيمات موروثة عن الاستعمار، دول كانت تحمل جينات انهيارها في لحظة تشكيلها. فما يطفو على السطح حاليا من انقسامات وتوترات وصراعات ذات طبيعة إثنية أو دينية أو مذهبية أو قبلية لم يختف يوما، بل كان مطمورا بعسف الديكتاتوريات التي كانت تمنع بالحديد والنار بروز هذه الاختلافات.. ففي العراق كما سوريا أو ليبيا، لم تستطع الديكتاتوريات العسكرية خلق نسيج وطني دامج لكل المكونات والطوائف والمذاهب، بل حتى الإيديولوجية القومية العربية كانت فقط قناعا يخفي استئثار طائفة السيد الرئيس بالسلطة والثروة.. وما وقع لاحقا كان التقاء مخططات لإضعاف هذه الكيانات مع تطلعات المجموعات الإثنية أو المذهبية أو القبلية للوصول للحكم أو المشاركة فيه ضدا على سنوات الإقصاء والاستبعاد. لم يكن أي تشكل نهائي للدولة الوطنية في الخليج (تراتبية نسق متصاعد من القبيلة فالعشيرة ثم الأسرة)، ولا في الشام (استحواذ أقلية علوية على السلطة والجيش، وحكم طائفي بلبنان) ولا في العراق (التي انتقلت من استبداد سني إلى استبداد شيعي وتطلع كردي لتحقيق حلم الدولة الكردية المحاصرة من العرب والترك والفرس)، وقس على ذلك.. لكن هل يمكن اعتبار ما حدث كله سلبيا؟ ألا يمكن أن تقود التراجيديات الواقعة اليوم في ليبيا وسورياوالعراق مثلا إلى إمكان بروز الدولة الوطنية، حيث صوت الانتماء الوطني الجامع هو الأعلى؟ أليس بالإمكان أن تحظى هذه المنطقة بنصيبها من مكر التاريخ الهيغلي، فتكون هذه التوترات بمثابة صدمة ضرورة الدولة الوطنية (قياسا على صدمة الحداثة بفعل الحروب الإمبريالية)؟ قد تكون في مظاهرات لبنانوالعراق الأخيرة ضد الطائفية بعض بدايات الخروج من هذا النفق.. في المغرب الكبير كان حظنا هو الانسجام الديني والمذهبي، وغياب للاختلافات العرقية والإثنية. لم يكن ثمة سوى إشكال لغوي وثقافي، مرتبط بالإقصاء الذي تعرض له المكون الأمازيغي (الأمازيغية بالنسبة إليّ في المغرب الكبير هي إشكال ثقافي وليس إثنيا)، وبالتالي، فقياس تصاعد الخطاب الهوياتي المرتبط بالثقافة واللغة الأمازيغيتين بما يقع في المشرق، سيكون ظلما وبقايا ثقافة الإلحاق القسري بالآخر على حساب الذات الأصيلة. ففي المغرب كما الجزائر لا نحتاج إلى محاصصة إثنية، بل نحتاج إلى حقوق ثقافية لكافة الشعب، حقه في تبوأ لغته وثقافته الأمازيغية الأصيلة المكانة اللائقة بها، جنب اللغات والثقافات الأخرى الوافدة، بمعنى أنها ليست حقوقا خاصة بإثنية معينة أو عرق خاص أو منطقة ما، بل هي حق لكل الشعب أكان ناطقا بالأمازيغية أم غير ناطق بها.. إنها ليست حقوق أقليات، بل هي ثقافة شعب أصيل.. ولذلك، فمهمة استكمال بناء الدولة الوطنية الحديثة بالمغرب الكبير تتساوق طردا مع مهمتي تفكيك السلطويات القائمة وبناء تحول ديمقراطي حقيقي، في أفق بناء وحدة مغاربية.