حسنا فعلت لجنة المراقبة المالية بمجلس النواب، حين فتحت النقاش حول التقرير الصادم للمجلس الأعلى للحسابات، حول المكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية «أونسا»، والذي كشف اختلالات بالجملة في مراقبة المنتجات الغذائية النباتية والحيوانية التي يستهلكها المغاربة. فرغم مرور حوالي شهرين على نشر هذا التقرير الخطير، الذي كانت «أخبار اليوم» سباقة إلى نشر مضامينه، فإنه لم يحظ باهتمام كبير لدى المؤسسات، ولم يفتح بشأنه نقاش عمومي حقيقي، رغم قيام وسائل الإعلام بدورها في إخبار الرأي العام بمضامينه. في المقابل، هناك من اختار تحويل الأمر إلى معركة سياسية، باتهام المجلس الأعلى للحسابات باستهداف حزب معين يشرف على تدبير هذا القطاع. ومن أغرب ما سمعته أخيرا من أحدهم، اتهامه القضاة الذين أنجزوا التقرير بالانتماء إلى حزب العدالة والتنمية. ذكرني ذلك بتصريح سابق لحميد شباط حين كان عمدة لمدينة فاس، بعدما أغضبه تقرير للمجلس الجهوي للحسابات، فوصل به الأمر إلى حد اتهام قضاته بدعم الإرهاب، فقط لأنهم كشفوا اختلالات في تدبير مالية العاصمة العلمية. كان لله في عون السيد إدريس جطو، فكلما كشف اختلالات قطاع معين، تعرض لهجوم سياسي غير مبرر، لا يناقش جوهر التقرير، بل يستهدف هذه المؤسسة الدستورية، وكأنه أصبح ممنوعا افتحاص مؤسسات الدولة، لكن القطاع الذي نتحدث عنه ليس كأي قطاع آخر، فهو يتعلق بمؤسسة عهد إليها بمراقبة سلامة المنتجات الغذائية التي يتناولها جميع المغاربة. ولا شك أن كل من قرأ تفاصيل التقرير سيصاب بالصدمة، وربما يقرر التوقف عن تناول الكثير من المنتجات التي لا تخضع لأي مراقبة ولا لأي معايير في الجودة والسلامة الصحية. وهذه فقط أمثلة مما جاء في التقرير؛ لنأخذ اللحوم، مثلا، لدينا 180 مجزرة بلدية في المغرب، واحدة منها فقط معتمدة لدى «المكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية»، أي أن 179 مجزرة بلدية لا تتوفر على معايير الذبح الصحي. وفي العالم القروي، هناك 223 مجزرة غير خاضعة أصلا لأي مراقبة، من أصل 702، وحتى المراقبة منها لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط النظافة والصحة، ولا تخضع سوى لتفتيش بيطري لا ينسجم مع المعايير المطلوبة. أما الدجاج، الذي يستهلكه معظم المغاربة، ويجري إنتاج 27 مليون رأس منه، فإن 80 في المائة من إنتاجه يكون في القطاع غير المهيكل، أي أنه لا يخضع لأي مراقبة، وتوجد 15 ألف وحدة لذبح الدواجن «تعمل دون ترخيص صحي مسبق». أما في ما يخص الحليب، فان هناك 2700 مركز لجمع الحليب في التراب الوطني، منها 1900 تابعة لتعاونيات الحليب، لكن ثلاثة مراكز منها فقط تتوفر على اعتماد صحي. أما الفواكه والخضراوات الموجهة إلى السوق المغربي، فهي لا تخضع لأي مراقبة بخصوص استعمال المبيدات، ما يهدد صحة المستهلك، أما تلك المعدة للتصدير، فهي تخضع ل«مراقبة صارمة» لبقايا المبيدات، وكأن السلطات الصحية المغربية حريصة على صحة الأجانب أكثر من حرصها على صحة المغاربة. ينطبق الأمر نفسه على عدم مراقبة بقايا المبيدات في النباتات العطرية، مثل النعناع والشيبة والبقدونس والكزبرة، «ما يعرض صحة المستهلك لمخاطر حقيقية»، حسب التقرير. أما بخصوص الشاي، المشروب المفضل للمغاربة، وهو مادة أساسية مستوردة وغير منتجة في المغرب، فإنه لوحظ أن السلطات الصحية المغربية لا تعتمد المعايير الأوروبية، ولا تراقب نسبة المبيدات فيه، بل يقول مجلس جطو إن مكتب مراقبة سلامة المنتجات الغذائية عاجز عن «تقييم المخاطر بشأن هذه المادة»، لذلك، اختار معايير بلد المنشأ، الصين، وهي معايير أقل احترازا بكثير من المعايير الأوروبية. وبخصوص مراقبة المبيدات الكيميائية، هناك غياب لأي مراقبة للمبيدات ذات الاستخدام الفلاحي في نقط البيع بالتقسيط، وغياب مراقبة نشاط إعادة تعبئة المبيدات المستعملة في الزراعة. وهناك العديد من الاختلالات الأخرى التي رصدها التقرير حول نشاط المكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية. هذه المؤسسة التابعة لوزارة الفلاحة أنشئت سنة 2009، وبلغت ميزانيتها 1,25 مليار درهم سنة 2018، وأنيطت بها مهمة حساسة هي مراقبة الأغذية بكل أنواعها، لكن يتبين اليوم أن مصداقيتها أصبحت على المحك، ولن يصدق أحد بعد اليوم بلاغاتها بخصوص المراقبة. ونتذكر بهذه المناسبة كيف تعاملت هذه المؤسسة مع ظاهرة تعفن أضاحي العيد في 2017، حين عزت ذلك إلى قلة النظافة وعدم وضع الذبيحة في الثلاجة، فتبين فيما بعد أن التحاليل أظهرت وجود مواد وبكتيريا بنِسَب عالية في الأضاحي، ومع ذلك استمر المكتب في الإنكار، ما جعل مجلس جطو يربط اخضرار الأضاحي ب«شكوك جدية حول عمليات مراقبة الأغنام». لقد أصبح واضحا أن مكتب سلامة الأغذية (أونسا) يعاني مشكلة في الحكامة، وفي الشفافية، وهو ما يلقي المسؤولية على عاتق كل من وزير الفلاحة الوصي على القطاع، والبرلمان، ولجنة المراقبة المالية، ولجنة القطاعات الإنتاجية، وجمعيات حماية المستهلك للضغط لتصحيح هذه الوضعية، وربط المسؤولية بالمحاسبة وحماية صحة المغاربة.