يوم غد، الذكرى الأولى، لمرور سنة كاملة، على نشر مقالاتي الأسبوعية في هذه الزاوية. نشرتُ خلالها 52 مقالة. جلستُ أتأمل هذا المسار، وتساءلت: لماذا أكتب؟ جالت في خاطري، إجابات كثيرة: التزمت مع الجريدة، والواجب الوفاء بهذا الالتزام. أريد التعريف بنفسي عند جمهور من القراء. لأنني في حاجة إلى المال، وعليّ أن أستمر في الكتابة، وإلا سأفقد موردا ماليا مهما. لأن الجريدة تحفزني، وتشعرني بالشغف، فتزودني بطاقة عجيبة. لأنني ربطت علاقات متينة مع القراء الذين يراسلونني على البريد الإلكتروني، المجاور لصورتي. لأن الجريدة تجمع كتابها سنويا في ندوة فكرية، ولا أريد أن أغيب عن هذه السُّنة الحميدة. لأنني أنتمي إلى تيار سياسي، وأجعل من هذه الزاوية منصة للدفاع عن الإيديولوجيةالتي أومن بها… طيلة الأسبوع المنصرم، وأنا أفكر في هذه الإجابات، فوصلت إلى أنها غير صحيحة. وجدت نفسي، أتساءل قائلا: من أنا، لأطرح هذا السؤال؟ هل أنا من الكتاب الكبار؟ وماذا في رصيدي من الكتابة لأتساءل هكذا؟ ندمت لأن هذا السؤال، لا ينبغي أن يتسرب إلى ذهني، وإذا ما سألني أحد، ينبغي أن أفر من الإجابة. ابتعدت عن التفكير في ذاتي، ورحت أفتش في مكتبتي، لأقرأ حوارات لعمالقة الأدب العالمي، وكيف أجابوا عن هذا السؤال، ربما قد يكشفون لي عن سر الكتابة. فتحت كتاب “فيزياء الرواية” للطيفة الدليمي، واتجهت إلى الفهرس، وقعت عيني على الروائي الياباني هاروكي موراكامي، أجاب قائلا: “عندما لا أكتب أغدو عدما، بل أشعر أن وجودي الإنساني يتلاشى“. أعدت قراءة إجابته، وتأملتها، وقلت لنفسي: هل أنا أكتب لأشعر بوجودي الإنساني؟ ارتسمت على محياي ابتسامة، الإجابة عظيمة، ولا تليق بي. رحت أبحث عن كاتب آخر، انتقلت من صفحة إلى أخرى، رأيت اسم الروائية الكندية مارغريت أتوود، قرأت حوارها، إلى أن وقفت على ما يجيب عن سؤال: لماذا أكتب؟، قالت: “فعل الكتابة بذاته –رغم المشقات الملازمة له– هو المكافأة الأكبر التي يتلقاها الكاتب“. لم تفارقني الابتسامة، إجابة مثالية، تساءلت: هل الكتابة ستسدد فواتير الكراء والماء والكهرباء والصحة والتعليم؟! أغلقت هذا الكتاب، ورحت أبحث عن كتاب آخر، أقرأ فيه إجابة، قد تكشف عما في نفسي. أخذت كتاب الروائي البيروفي ماريو بارغاسيوسا “رسائل إلى روائي شاب“، قرأت مقدمته، ووجدته يقول: “الكاتب يشعر في أعماقه، بأن الكتابة، هي أفضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له“. تفاجأت، واستغربت اتفاق الكُتاب على هذا المعنى المثالي. الواقع يؤكد،أن الأفضل للكاتب، أن يكون الأكثر مبيعا في العالم، ويراكم ثروة مالية كبيرة يعيش بها حياة مريحة. أغلقت الكتاب، وأرجعته إلى مكانه. بحثت في مكتبتي، ووجدت كتابا مختبئا، يجيبعن هذا السؤال مباشرة، إنه كتاب الروائية الأمريكية مريديث ماران، عنوانه: “لماذا نكتب؟“. بدأت بقراءة حوار الروائي الأمريكي، ديفيدبالداتشي، أجاب بصراحة ودون مثالية: “الكتابة أروع مهنة في العالم، فأنا أتقاضى المال لأحلم أحلام اليقظة“. ياله من جنون! قهقهت بعد ذلك، وتسألت: هل الكتابة في العالمالعربي مهنة؟! مَن مِن الكتاب العرب يعيش بمداخيل كتبه؟ بدت لي الإجابة سخيفة في سياقنا العربي. لا أكتب لأمتهن الكتابة، لو فعلت، ستتهمني زوجتي بالحمق، وتطردني منالبيت. تذكرت كتابا ممتعا للروائي المصري أحمد خالد توفيق: “اللغز وراء السطور“، بحثت عنه، وأخرجته من المكتبة، كما لو أنني وجدت كنزا عظيما. بدأت أقرأ مقدمته الضرورية، لعلي أجدالإجابة الشافية، فأثارني بقول فريد للروائي الأمريكي دان بروان – صاحب شفرة دافنتشي– نقله عنه من معرض الشارقة، قائلا: “أجمل شيء في الكتابة، هو أن تكون قد كتبتفعلا!”. وخفتأن أسأل نفسي، هذا السؤال: هل كتبت حقا؟ وليس أن أسأل: لماذا أكتب؟ لم أرد زرع الإحباط في نفسي، بل شجعتها. رجعت مرة أخرى، لأتصفح كاتب فيزياء الرواية، لعلي أجد إجابة عن سؤالي، تصفحت الكثير من الأوراق، إلى أن وقعت عيني على إجابة للروائي التركي أورهان باموق، حيث قال: “الكتابة عمل جاد بالأساس، لكنه متعة وألعاب مسلية أيضا“. ظللت أقرأ هذه الجملة، وأسأل نفسي بجدية: هل تنطبق عليّ؟ شعرت بالحزن، وندمت ندما شديدا، لأنني فكرت،بالاحتفال بمرور سنة على الكتابة في هذه الزاوية، بالتساؤل حول ماهية ما أفعل. كان الأفضل أن لا أتساءل مطلقا، بل كان يجب على مدير النشر، أن يهديني صورة حلوى لذيذة،ينشرها على حسابه الفيسبوكي، وسأكون أسعد الناس. كنت أكتب طيلة هذه المدة، لهذا السبب، وأرجو أن يتحقق لي هذا الحلم قريبا!.6 أطلقت شبكة “إم بي سي” السعودية قناة جديدة خاصة بدول المغرب العربي، على غرار قنواتها التي تتوجه إلى بلدان بعينها، مثل العراق ومصر. والغالب على برامج هذه القناة، منذانطلاقها في شتنبر 2019، أنها تتوجه إلى المغاربة أكثر من توجهها إلى شعوب بلدان المغرب العربي الأخرى، ليس فقط، لأن مستشارها العام مغربي الجنسية، وإنما من خلالالحضور القوي للبرامج التي يعدها ويقدمها مغاربة، وتتوجه إلى المغاربة بلغتهم المحلية، أو من خلال دبلجة المسلسلات التركية بالعامية المغربية. وهو ما يعني أن القناة التي أعلن عندانطلاقها أنها ستكون موجهة إلى دول المغرب العربي الخمس، الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، بالإضافة إلى المغرب، تحولت إلى قناة سعودية بنكهة مغربية صرفة، على غرارشقيقتيها في العراق ومصر. والهدف المعلن من إطلاق القناة الجديدة هو الربح المادي من خلال استهداف السوق الإعلانية المغاربية الكبيرة، وهو ما يبرّر شبكة برامج القناة الجديدة التي تبتعد عن السياسة،وتركز على الترفيه والطبخ والغناء وبرامج “التوك شو” الفارغة من كل محتوى. ولكن، طوال نحو ثلاثة أشهر من البث، لوحظ خلو القناة من أية إعلانات مغاربية. أما الإعلانات التي تبثعليها، فأغلبها التي تبث على قناة “إم بي سي 1″ الأم التي تتوجه إلى سكان دول الخليج بالدرجة الأولى. وهو ما يطرح السؤال عمّا إذا كان القائمون على القناة قد درسوا سوقالإعلانات المغاربية، الضعيفة جدا من حيث الأموال المرصودة لها مقارنة مع الحجم الكبير لميزانيات المعلنين الكبار في دول الخليج، أم أن الغرض من إطلاق هذه القناة يتوخّى أشياءأخرى، غير الربح المادي، غير معلن عنها؟ لم تكن الشبكة الأم التي تجر وراءها تجربة أكثر من ربع قرن من البث في العالم العربي دائما محايدة في توجهاتها، فهي وجدت أول مرة عام 1991، مباشرة بعد حرب تحريرالكويت التي قسمت العالم العربي إلى فسطاطين، فسطاط الأنظمة التي وقفت إلى جانب التحالف الذي اجتمع آنذاك بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية لضرب العراق ونظام صدّامحسين، وفسطاط الشعوب التي خرجت لأول مرة وفي أكثر من عاصمة عربية في مظاهرات بأعداد كبيرة للاعتراض على ضرب العراق وتدمير شعبه. وكانت أكبر المظاهرات هي التيشهدتها دول المغرب العربي ومصر والسودان واليمن والأردن وفلسطين، وقد أظهرت البون الشاسع ما بين الشعوب العربية وأنظمتها التي كانت تحظى بدعم سخي من دول الخليج. ولذلك جاء إطلاق قناة “إم بي سي” أول فضائية عربية تتوجه إلى جميع الشعوب الناطقة باللغة العربية، ووسيلة إعلامية للتأثير في الشعوب العربية لكسب تعاطفها مع قضايا الدولالخليجية، وخصوصا السعودية الطامحة دائما إلى زعامة العالمين، العربي والإسلامي. وطوال سنوات، ظلت “إم بي سي” مهيمنة على صناعة الرأي العام في المنطقة العربية، منخلال نشراتها الإخبارية وتغطياتها المباشرة وبرامجها الموجهة، قبل أن تدخل في تنافس مع تجارب دول أخرى عربية وإقليمية وغربية، جعلت من التأثير في توجهات الرأي العامالعربي سياسة عمومية تنفق عليها من المال العام، وتشرف عليها هيئاتها الدبلوماسية والمخابراتية. وعندما شعرت السعودية بقوة المنافسة الإعلامية الجديدة، سعت إلى إطلاق قنوات فضائية بإمكانات مالية كبيرة، مثل قناة العربية وشقيقتها “العربية الحدث“، ولم يكن من المصادفةتزامن إطلاق هاتين القناتين مع أحداث عربية كبيرة، الأولى أطلقت عام 2003 تزامنا مع الغزو الأمريكي لبغداد، بتزكية رسمية عربية بررتها وسائل الإعلام السعودية، والثانية أطلقتعام 2012 لتدارك السقوط الكبير للقناة الأم في أثناء تغطيتها أحداث الربيع العربي، وتزامن إطلاقها مع بداية ما سميت “الثورات المضادة” التي قادتها أنظمة خليجية، بزعامةالسعودية والإمارات، ضد الشعوب العربية التي خرجت ضد أنظمتها المستبدة. وكانت “العربية” و“العربية الحدث“، إلى جانب “إم بي سي” من بين القنوات الأولى التي أبرزت إعلاميا تسليح الثورة السورية، معلنة عن بداية “عسكرة” الحراكات الشعبية فيالمنطقة العربية، فبثت مباشرة عمليات عسكرية كانت تقوم بها فصائل مسلحة تحظى بدعم مالي وعسكري وإعلامي خليجي، وتصف عناصرها ب “الثوار“، وهي الفصائل التيتصنف اليوم “إرهابية” حتى من الدول التي أوجدتها، وكانت تدعمها بالمال والسلاح والإعلام والمقاتلين !ثم عندما تحول طموح هذه الأدوات الإرهابية إلى بناء مشروع “الدولةالإسلامية” الذي ينافس مشروع الزعامة السعودية للعالمين، العربي والإسلامي، تحولت إلى عدو تجب محاربته واجتثاث فكره في كل مكان، والبداية من السعودية، معقل الفكر الذي خرجت من تحت عباءته أبرز التنظيمات الإرهابية، بدءا ب“القاعدة” وانتهاء ب“الدولة الإسلامية“. وسينعكس هذا التحول الاستراتيجيبشكل واضح في خط تحرير وسائل الإعلام السعودية وتلك الممولة من المال السعودي التي طالما استعملت أدوات للدعاية للتوجه السعودي الرسمي، ولنشر الفكر “الوهابي“، الوعاءالإيديولوجي لسياسة الهيمنة السعودية خلال العقود الأربعة الماضية. وجسّد هذا التحول، بشكل دراماتيكي، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية الذي بدأعهده ببسط يده على وسائل الإعلام السعودية، وتسخيرها لخدمة توجهه الجديد الذي يقوم على مبدأين: أولا، اجتثاث الفكر الذي أصبح يفرز ظواهر تنافس السعودية في طموحهاالاستراتيجي في احتكار تمثيل الإسلام والمسلمين في العالم. وثانيا، التصدي لثورات الشعوب العربية من خلال استهداف وعي الجماهير وتسطيحه حتى لا تقوم، مستقبلا، قائمةلأي فكر تحرري أو ثوري في المنطقة العربية. السعودية اليوم أمام تحول كبير ينذر بانهيارات قوية ستهز المنطقة برمتها، وهو ليس كما ما يبدو مجرد تنفيذ لخطة انتقال اقتصادي واجتماعي إلى مرحلة ما بعد النفط، بقدر ما هوتحول في التوجه الإيديولوجي لقيادة السعودية الجديدة، بزعامة ولي عهد صاحب طموح سلطوي جامح. ولخدمة هذا التوجه السعودي الجديد، كان لا بد من آلة دعائية كبيرة تقومبترويجه، وهو ما تقوم به اليوم وسائل الإعلام السعودية الواقعة تحت هيمنة ولي العهد وحاشيته المقربة. وفي هذا السياق، يدخل التوسع الإعلامي لمؤسسة “إم بي سي” عربيا،باعتبارها أبرز علامة إعلامية سعودية في العالم العربي، بغرض تسطيح وعي الشعوب، وصرف انتباهها عن الشأن السياسي، حتى يتماهى الرأي العام العربي مستقبلا مع الصورةالجديدة للسعودية في عهد ولي العهد، بما يعزز سلطاته السياسية في الداخل، ويساهم في إبراز زعامته في المنطقة العربية، فما فشلت السعودية بالأمس في تحقيقه لبسط هيمنتهاالإيديولوجية على العالمين، العربي والإسلامي، تسعى اليوم إلى بلوغه من خلال نشر ثقافة “التتفيه” و“التبسيط” عبر وسائلها الإعلامية ذات الإمكانات المالية الضخمة. ولأن ثمّةخطورة في ما تبثه هذه الوسائل الإعلامية اليوم من “تفاهات” من الضروري التصدّي له ومقاطعته والتنبيه لخطورته مستقبلا.. وذلك أضعف الإيمان.6