حرب باردة تدور رحاها، منذ مدة، بين فرنسا والمغرب، تتناثر شظاياها، من حين إلى آخر، في الإعلام الفرنسي الرسمي وغير الرسمي، فيُرد عليها، مغربيا، في الإعلام الرسمي (MAP)، وشبه الرسمي، أي أبواق السلطة التي تكتشف، فجأة، أن فرنسا استعمارية وداعمة للديكتاتوريات والانقلابات في إفريقيا… أو، حتى، عبر خروج مسؤول أمني مغربي، مثل عبد الحق الخيام، للحديث، في وكالة الأنباء الإسبانية، عن التعاون الإسباني المغربي، بمنطق إياكِ أعني واسمعي يا جارة. آخر قصف وجهته باريس إلى الرباط، كان هو الحوار الذي أجرته وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) مع أمينتو حيدر، وقدمتها فيه بصفة «غاندي الصحراء الغربية». لا يمكن أن نغفل، كذلك، النبرة النقدية الحادة التي طبعت متابعات الصحافة الفرنسية لذكرى مرور 20 سنة على تولي الملك محمد السادس العرش؛ سواء تعلق الأمر بالجرائد المقربة من اليمين أو من اليسار. بل لقد انخرطت في ذلك حتى الجرائد التي اعتادت مداهنة المغرب، أو الصمت في اللحظات التي تكون فيها العلاقات المغربية الفرنسية في أزمة؛ حيث توحدت كلها على قول إن المغرب يتخبط في مشاكل سياسية واختلالات اجتماعية واقتصادية، ويعرف تراجعا في مجال حقوق الإنسان. فما الذي يحدث لنا، إذن، في باريس، حتى تنتقل وكالة أنباء رسمية مثل AFP من انتقاد المغرب إلى استفزازه؟ لقد زامن حوار وكالة الأنباء الفرنسية مع القيادية في بوليساريو الداخل، ثلاثة أمور، من المؤكد أن فرنسا ماكرون لا تنظر إليها بعين الرضا؛ الأول، هو الحديث عن أن صفقة مشروع القطار فائق السرعة، المرتقب إنجازه بين مدينتي مراكش وأكادير، قد تذهب إلى الصين التي قدمت إلى المغرب عرضا أقل كلفة، في الوقت الذي كانت فرنسا تعتقد أن المغرب سوف يتعامل معها، كما اعتادت، بشكل تفضيلي، بصرف النظر عن دفتر التحملات وطلبات العروض… والأمر الثاني هو أن المغرب لم يعد في حاجة إلى فرنسا للدخول إلى إفريقيا، بعدما استعاد موقعه الإفريقي في 2016، لكنه بحاجة إلى جسر يعبر منه إلى دول أمريكا اللاتينية. وإذا كانت فرنسا قد شكلت، في ما مضى، دور عراب المغرب في عمقه الإفريقي، فإنه لم يعد محتاجا إلى هذا الدور، قدر احتياجه إلى دور إسبانيا في أمريكا اللاتينية. والأمر الثالث هو تطور العلاقات السياسية والتجارية مع إسبانيا التي زحفت، في وقت قياسي، منذ يونيو 2018 وإلى الآن، على المكانة التاريخية لفرنسا لدى المغرب، حيث أصبحت مدريد محامي الرباط الأول في الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة. لننتبه إلى التحول الكلي في الأدوار بين فرنسا وإسبانيا في ما يخص قضية الصحراء؛ ففي الوقت الذي فتحت فيه وكالة الأنباء الفرنسية المجال لأمينتو حيدر للحديث عن أن المغرب بلد مستعمِر، كان رئيس الحكومة الإسباني، بيدرو سانشيز، قد وقف –في سابقة تاريخية- أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في شتنبر المنصرم، يقول إن الحل السياسي في قضية الصحراء، بإشراف الأممالمتحدة، هو الحل الأمثل. وكان سانشيز بذلك أول رئيس حكومة إسباني يسقط من قاموسه عبارات تقرير المصير، وإجراء استفتاء في الصحراء. كما أنه في الوقت الذي تصاب فيه فرنسا بالجنون بسبب كبح مطامحها الجشعة في الفوز بصفقات ضخمة في المغرب، نجد إسبانيا تطالب الاتحاد الأوروبي بإنشاء صندوق دائم لدعم المغرب الذي أصبح يعتبر مدريد ممثله الكبير في بروكسيل. إن مشكلة إيمانويل ماكرون هي أنه لا يعي، ربما، قيمة كونه رئيسا لفرنسا، البلد الذي امتاز بالدفاع عن تقاليد الجمهورية، إلى جانب الدفاع عن علاقاته وصداقاته التاريخية بتوازن يراعي مصالح وحساسيات الدول الصديقة، في الآن نفسه. ماكرون الذي قال عنه موقع مجلة «le point» إنه ملكي أكثر من كونه اشتراكيا، يشبه نظيره الأمريكي، دونالد ترامب، الذي لا يتورع عن ابتزاز أصدقائه الخليجيين أمام كاميرات الصحافيين، وليس في المجالس المغلقة كما كان يفعل سابقوه. وإذا كان ترامب يحفر قبره بنفسه بسبب قضايا روسيا وأوكرانيا، فإن ماكرون يفعل الشيء نفسه بسبب سوء تعامله مع الجبهتين الداخلية والخارجية، وآخرها مشاكله مع ألمانيا وتركيا التي قال رئيسها، رجب طيب أردوغان، إن ماكرون يعكس فهما مريضا وسطحيا، وينبغي أن يخضع لفحص طبي لمعرفة ما إذا كان ميتا دماغيا. ختاما، يبدو أن الملك محمد السادس قد انتبه، بعد حوالي 60 سنة، إلى النصيحة التي كان المهدي بنبركة قد قدمها إلى الحسن الثاني: «لا يجب الإبقاء على الوضع الذي يترك لفرنسا المجال لممارسة المزيد من الهيمنة على بلادنا، كما لا يعقل أن تبقى علاقات الرباطبمدريد في حالة لا هي زواج ولا هي بالطلاق». الآن، يبدو أن العلاقات مع باريس هي التي باتت بين الزواج والطلاق، وإن كان الحب القوي بين الدولتين العميقتين هو زواج كاثوليكي.