الجارة الشمالية ليست بخير. الانتخابات المعادة يوم أمس الأحد التي دعا إليها رئيس حكومة تصريف الأعمال وزعيم الحزب الاشتراكي، بيدرو سانشيز، لم تأت بالحل، بل زادت طين البلوكاج الحكومي والسياسي بلة. نحن أمام مشهد سياسي وحكومي إسباني معقد لم يسبق له مثيل في تاريخ الديمقراطية الإسبانية. ما رأيكم في نتائج الانتخابات المعادة؟ المشهد السياسي الإسباني، وآفاق تجاوز البلوكاج وتشكيل الحكومة يستمر قائما إذا ما لم يتوصل الحزب الاشتراكي إلى تفاهم مع حزب بوديموس ولائحة من الأحزاب الجهوية. السقوط الصاروخي لحزب سيودادانوس ألغى من الحسابات تشكيل حكومة بدعم أو تحالف هذا الأخير، كما كان يطالب بذلك الزعيم الاشتراكي بعد انتخابات 28 أبريل السابقة. في المقابل، لم تعد إسبانيا تحتمل إعادة الانتخابات للمرة الخامسة، وهذا ما صرح به بيدرو سانشيز بعد الإعلان عن النتائج، مؤكدا أنه فهِم رسالة الناخب الإسباني، وأنه سيفتح حوارا مع كل الأحزاب التي حصلت على تمثيلية في البرلمان، باستثناء حزب فوكس، وأنه سيعمل ما في وسعه إلى تشكيل حكومة تقدمية. من جانبه، عبّر بابلو إيغليسياس عن نفس الاستعداد، مع احتمال كبير لاستعداد سيودادانوس للامتناع عن التصويت وتلافي دعم الأحزاب الجهوية الأكثر تطرفا لحكومة بيدرو شانشيز المرتقبة، أما احتمالات تشكيل حكومة وطنية ائتلافية بين الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي على قياس النموذج الألماني فتبقى ضعيفة جدا. من المؤشرات المقلقة بعد هذه الانتخابات أنه لأول مرة في تاريخ الديمقراطية الإسبانية ما يقرب من ثلث أعضاء البرلمان الإسباني من الأحزاب الجهوية والانفصالية، بمعدل 7 أحزاب جهوية 3 منها انفصالية، حظيت بتمثيلية في البرلمان الإسباني. يبدو أن الناخبين الإسبان عاقبوا اليسار، الحزب الاشتراكي الحاكم وحزب بوديموس، كما ألحقوا شر عقاب بحزب “مواطنون”؛ في المقابل، أعادوا الحزب الشعبي إلى الحياة، وكانت المفاجأة التصويت بقوة لصالح حزب فوكس، اليميني المتطرف. الذي لم يفهمه اليسار الإسباني والحزب الاشتراكي الإسباني أن الناخب الإسباني يريد تحالفات في تشكيل الحكومة، وصعود سيودادانوس، في حينه كان إشارة واضحة لرغبة الإسبان في حكومة بين وسط اليسار ووسط اليمين تقطع الطريق أمام أي دور للأحزاب الجهوية والانفصالية بالخصوص في تشكيل الحكومة، والنتيجة كانت عكس ما كان يطمح له الاشتراكيون بحصد المزيد من المقاعد في هذه الانتخاب. ثم إن الناخب الغاضب انقسم إلى مقاطعين للانتخابات، حيث إن نسبة المشاركة انخفضت بشكل لافت، وبين الذين اختاروا التصويت العقابي ضد الأحزاب التي كانت سببا في إعادة الانتخابات، في مقدمتها سيودادانوس الذي تراجع ب47 مقعدا من أصل 57 التي حصل عليها في انتخابات 28 أبريل الفارط، وكذلك ضد الحزب الاشتراكي ولو بشكل محدود، وبوديموس التي تراجعت ب7 مقاعد، في المقابل نلاحظ أن الحزب الشعبي استرجع جزءا كبيرا من ناخبيه من وسط اليمين الذين ذهبوا في الانتخابات السابقة إلى حزب سيودادانوس، والمستفيد الأول من غضب الناخبين كان حزب فوكس الذي حلّ في المرتبة الثالثة بعد الحزب الشعبي، وأصبح منافسا لهذا الأخير على زعامة اليمين، بل أصبح من أكبر الأحزاب اليمينية المتطرفة تمثيلية في أوروبا. كما أن حصوله على 52 مقعدا يمنحه بمقتضى الدستور أن يتقدم بالطعون الدستورية، وقد أعلن زعيمه سانتياغو أباسكال نيته بالطعن في كل القوانين التي يعتقد أنها تتعارض مع الدستور، ما يعني عرقلة مستمرة لكل مبادرات حل الأزمة الكطلانية بالحوار والتفاوض. بقدر ما كانت الأزمة الكطلانية خزانا للأصوات بالنسبة إلى الأحزاب الجهوية والانفصالية، كانت خزانا للأصوات بالنسبة إلى اليمين المتطرف. فوكس استغل بدهاء هذه الأزمة إلى جانب الهجرة والأمن ليعرض نفسه الحزب الوحيد القادر على حماية إسبانيا والدفاع عن وحدتها وحدودها، ولو باستعمال الإشاعة ونشر الأكاذيب والاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي بدل الإعلام الكلاسيكي. سبق للمفكر الإسباني خوصي أورطيغا إي غاصيط أن كتب في العشرينيات من القرن الماضي مشكلة كطالونيا ليست في الكطلانيين، بل في الوحدويين الذين أساؤوا تقدير هذه الحركة وأججوا لهيبها وحوّلوها إلى حركة شعبية تزداد قوة. وكأن التاريخ يعيد نفسه اليوم في إسبانيا. الفاشية الجديدة على الحدود المغربية. هذا التخوف أصبح حقيقة بعد ضرب حزب فوكس المعادي للمغرب والمغاربة بقوة، إذ رفع أسهمه من 24 مقعدا إلى 52 مقعدا تقريبا. أي تهديد تشكله النتيجة العريضة التي حققها فوكس على المصالح المغربية؟ قُل بالأحرى الفاشية الجديدة/ القديمة على الحدود المغربية، لأن جذور حزب فوكس تعود إلى الماضي الفرنكاوي، وقياداته لا تخجل في التصريح بذلك، وهذا فعلا يعني تهديدا للعلاقات المغربية الإسبانية، لكنه ليس تهديدا مباشرا مادامت احتمالات وصوله إلى السلطة بعيدة في الوقت الحاضر، وهذا لا يعني كذلك أن قوته حاليا ستؤثر في مواقف وسياسات الحزب الشعبي المتضرر الأول من مزايدات حزب فوكس في مجال العلاقات الخارجية وفي موضوع الهجرة وغيرها من عناصر التعاون بين البلدين، كما أن فريق برلماني ب52 مقعدا سيكون مؤثرا في السياسات الحكومية ومتابعتها ومراقبتها عبر اللجان البرلمانية، ولن يكون سهلا على الحكومة المقبلة تدبير العلاقات مع المغرب بنفس السلاسة التي كانت تدبرها سابقا، علما أن الحزب الشعبي سيحاول الإمساك بزمام المبادرة في البرلمان كزعيم للمعارضة، وستحتدم المنافسة بين الحزبين حول من منهما يمثل اليمين ويدافع عن إسبانيا وعن وحدتها وعن مصالحها الداخلية والخارجية. المشهد مقبل على المزيد من الشعبوية والتطرف اليميني، والمزيد من البلوكاج في ملف كاطالونيا والتطرف الانفصالي. كيف تنظر إلى العلاقات المغربية الإسبانية في المقبل من الأيام على ضوء النتائج الانتخابات الحديثة، لاسيما مع تعقُد المشهد السياسي واكتساح فوكس لهذا المشهد بقوة؟ كما قلت سابقا، العلاقات المغربية الإسبانية لن تتأثر مباشرة بهذه النتائج، لكنها قد تعود إلى الواجهة كموضوع داخلي إسباني قد يعرقل سلاستها الحالية، كلنا نتذكر كيف تحولت العلاقات مع المغرب إلى موضوع انتخابي وداخلي في إسبانيا مع رئيس الحكومة السابق اليميني خوصي ماريا أثنار، وتداعيات ذلك من سحب السفير المغربي، وأزمة جزيرة ليلى وتصريحات وزير الخارجية الإسباني آنذاك المحرجة للمغرب وغيرها. فوكس لن يؤثر في سياسة الدولة في المرحلة الحالية ولا المقبلة، لكنه قد يكون سببا في توترات لا تخدم البلدين. هل سنرى حكومة إسبانية جديدة قريبا أم أن لا مفر من انتخابات جديدة؟ الوضع الاقتصادي ومؤشرات أزمة جديدة، والوضع على مستوى الاتحاد الأوروبي بعد البريكسيت البريطاني، وأزمة الانفصال الكطلاني.. كلها عناصر تؤكد استعداد الجميع لتشكيل أو تسهيل تشكيل الحكومة. لا أعتقد أن إسبانيا ستذهب إلى انتخابات خامسة، والمحتمل جدا أن يشكل بيدرو شانشيز حكومة ائتلافية مع بوديموس وبدعم مجموعة من الأحزاب الجهوية، باستثناء الانفصالية، ومحتمل جدا أن يمتنع سيودادانوس عن التصويت في أدنى الحالات، كما لا يُستبعد أن يجد حزب اليمين الشعبي صيغة لتسهيل تشكيل الحكومة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مراكز القرار الاقتصادي والحلفاء الأوروبيين أرسلوا قبل وبعد الإعلان عن النتائج رسائل واضحة في هذا الاتجاه. الخلاصة هي أن تشكيل الحكومة مسألة واردة وبقوة، كما أن احتمال إعادة الانتخابات للمرة الخامسة ضعيف جدا، لكن بالتأكيد لن تكون حكومة قوية ومستقرة.