فشلت المفاوضات الثلاثية بين السودان ومصر وإثيوبيا حول اقتسام مياه النيل، بسبب السد الضخم الذي تبنيه أديس أبابا «النهضة» الأكبر من نوعه في إفريقيا. وستتأثر مصر بشكل لم يستوعبه الكثيرون، نظرا إلى ضخامة الحدث جيوسياسيا على مستقبل البلاد، وتأثيره ليس فقط على مصر، بل دورها في الشرق الأوسط. ورغم التحدي الخطير، تبقى مصر مكتوفة الأيدي، ولا تستطيع القيام بأي عمل، ومنه العسكري للدفاع عن مصالحها، وبهذا قد تكون دخلت فصلا جديدا مقلقا من تاريخها في زمن يقود العسكر الحكم فيه. وتدرك إثيوبيا أن السد سيحرم مصر من حصة مهمة من المياه، التي تمر عبر الشريط المصري قبل المصب، وتراهن على جعل سد النهضة ركيزة لانطلاقتها الاقتصادية الجديدة في القارة السمراء، خاصة في شرقها على حساب مصر، وهي واعية بغياب رد فعل قوي مصري، بل باستفادتها (إثيوبيا) من القانون الدولي غير الواضح في مثل هذه النزاعات. ويعد التحدي الإثيوبي أكبر منعطف خطير في تاريخ مصر منذ الحقبة الفرعونية حتى يومنا هذا، فذلك المثل الشهير الذي يقول «مصر هبة النيل»، هو تجسيد لواقع تاريخي وجغرافي منذ القدم، ولكن الآن، بدأت الأوضاع تتغير وبشكل كبير ولافت، وتصبح «مصر رهينة إثيوبيا». تراجع نسبة مصر من المياه يحمل مؤشرات كارثية، إذ تعتمد مصر على 90% من مياه النيل، سواء للري أو الشرب، ومع ارتفاع عدد سكان البلاد بما يفوق مئة مليون نسمة، يشكل تراجع نسبة المياه معادلة شائكة تحمل كل المخاطر على الوطن المصري. وكانت مصر تدرك دائما خطورة قيام دولة من الدول المطلة على النيل ببناء سد ضخم يقلص حصتها من المياه، وسعت باستمرار إلى إبطال مثل هذه المشاريع، ولكن في آخر المطاف «وقعت الواقعة» وجاءت من إثيوبيا التي ترغب في امتلاك سد على شاكلة السد العالي المصري، وقد يتكرر الأمر مع السودان، ودول أخرى ترغب في التنمية. ويقف النظام العسكري الحاكم بزعامة عبد الفتاح السيسي عاجزا. إذ يتزامن الحدث مع ظروف صعبة تمر فيها مصر، ومنها هشاشة الدولة بسبب غياب الديمقراطية، وإيقاف الربيع العربي. وفي الوقت عينه، لا يمكن لمصر الاعتماد على التضامن العربي في غياب الوحدة العربية، ولن تنفعها المطالبة بوساطة دولية، مثل الرهان على الولاياتالمتحدة. وهددت مصر باللجوء إلى الخيار العسكري، ويعني تدمير سد النهضة وإعادة تدفق المياه بشكل طبيعي. ورفعت مصر الشعار العسكري خلال مناسبات كثيرة، وعاد الآن بقوة إلى الواجهة، حيث يردده الكثير من المثقفين والسياسيين، بل حتى العسكريين. والواقع المر، أن مصر لا تمتلك القوة الكافية لتطبيق الخيار العسكري، فهو مستحيل في الوقت الراهن، ولا تشترك مصر في الحدود البرية مع إثيوبيا، وهذا سيمنع القوات المصرية من الوصول الى الأراضي الإثيوبية، لأن السودان لن تفتح أراضيها للجيش المصري، وحتى إن فتحت أراضيها، لا يملك الجيش المصري اللوجستيك الكافي لنقل عشرات الآلاف من الجنود. كما لا يمكن الاستهانة بالجيش الإثيوبي الكثير العدد والمنتشر في مجموع البلاد. ومن الصعب على الطيران المصري ضرب سد النهضة بسبب البعد الجغرافي الذي سيقلل من هامش المناورة لدى سلاح الجو المصري، والأخطر هو تجهيز إثيوبيا الدفاع الجوي لسد النهضة بمنظومة إسرائيلية متطورة، وهي سبايدر. وليتساءل النظام العسكري المصري لماذا في الوقت الذي كان يرفع السيسي من التنسيق مع إسرائيل كانت الأخيرة تزود إثيوبيا بالتقنية والسلاح لحماية سد النهضة؟ ويعد النظام العسكري بزعامة السيسي، خاصة هذا الأخير هو المسؤول عن هذا التطور المفجع، ويدرك النظام العسكري مدى خطورة سد النهضة على مصر، وبدل الرهان على استراتيجية دقيقة ارتكن إلى الإهمال الساكن. ويفترض أن السيسي، الذي كان مدير الاستخبارات العسكرية سابقا، يدرك بوجود المخطط الغربي الرامي إلى ضرب ثلاث دول في الشرق الأوسط، للمساهمة في تغيير الخريطة بطريقة هادئة وذكية. في هذا الصدد، جرى ضرب السودان عبر تقسيمه حتى لا تكون السلة الغذائية للعالم العربي، ويجري ضرب وحدة السعودية والعمل على تقسيمها، حتى لا تكون أرضية لأي نهضة للوحدة العربية والإسلامية، ووجدت في ولي العهد محمد بن سلمان خير عنصر لتنفيذ هذه الاستراتيجية. بينما يتلخص سيناريو مصر في تقليص مياه النيل حتى تسقط رهينة المشاكل الاجتماعية الخطيرة التي ستترتب عنه، ووجدت في السيسي خير مساعد. كان أمام السيسي والنظام العسكري الوقت الكافي للتحرك بذكاء، ابتداء من مصالحة وطنية شاملة، لتعزيز الصف الوطني لمواجهة كارثة ستحل بمصر والأجيال المقبلة، لاسيما في ظل تحول الماء إلى المادة التي قد تسبب الحروب مستقبلا. وكل ما فعل السيسي والنظام العسكري، هو بناء مدينة جديدة والترويج للسيسي رئيسا فوق العادة، والتضخيم من ظاهرة الإرهاب في سيناء ومحاولة جعل المقاول محمد علي العدو رقم واحد للبلد. لقد حمل السيسي شعار الدفاع عن مصر، لكنه قام بتهيئة الظروف لتلقي مصر أكبر ضربة في تاريخها. والأمر يتجاوز السيسي إلى مصر برمتها شعبا وحكومة، لقد فشلت مصر في حماية نفسها بعدم إدراك خطورة الوضع، وبسبب صمت الشعب على نظام فاشل. التاريخ المصري مليء بالهزائم والانتصارات، بعضها كان لها تأثير والأخرى عابرة، لكن بناء إثيوبيا سد النهضة، يعد هزيمة جيوسياسية لا سابقة لها لكل مكونات البلد المصري شعبا وحكومة. نعم، «مصر هبة النيل»، والآن أصبحت مصر «مصر ضحية إثيوبيا والعسكر». *عن (القدس العربي)