يناقش هذا التحليل المشهد السياسي في السودان بعد اتفاق 17 غشت عن طريق تحليل الفاعلين الأربعة المؤثرين فيه، بالإضافة إلى مستقبل الفترة الانتقالية في السودان وسيناريوهات التغيير السياسي. * خالد عثمان الفيل، باحث وكاتب سوداني. في الاتفاق السياسي الأهم منذ اندلاع ثورة دجنبر 2018: كان يوم السبت غشت 2019 يومًا فريدًا في تاريخ السودان، فهو اليوم الذي خرج فيه مئات الآلاف من المواطنين محتفلين بتوقيع “وثائق المرحلة الانتقالية” بين قوى الحرية والتغيير وبين المجلس العسكري الانتقالي، والتي اعتبرها الكثيرون تتويجًا لمسار الثورة السودانية التي انطلقت في دجنبر 2018 وأطاحت بنظام عسكري هو الأطول في تاريخ السودان الحديث. أما مضامين الاتفاق نفسه فقد كانت حول “الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019” التي شكَّلت ملامح وتفاصيل هياكل الحكم الانتقالي وطبيعة إدارة البلاد وتقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين في المرحلة القادمة. لم تمض أيام على ذلك الاحتفال حتى اكتمل تحديد أعضاء المجلس السيادي من المدنيين والعسكريين وقاموا بأداء القَسَم، وبعدها بأيام قليلة تم تعيين الدكتور، عبد الله حمدوك، المتخصص في الاقتصاد والتنمية وصاحب الخبرة الطويلة في المؤسسات التنموية الدولية مع خبرة محلية في تطوير الممارسة الديمقراطية، رئيسًا للوزراء من قِبل قوى الحرية والتغيير وقام بأداء القَسَم. كل تلك الأحداث جعلت الأمل والسرور هي الأحاسيس السائدة في الشارع السوداني. مع ذلك، فالحديث عن مستقبل الفترة الانتقالية في السودان وسيناريوهات التغيير السياسي لا ينبغي أن يكتفى بالنظر في ظواهر ويتغافل عن تحليل علاقات بالسلطة للفاعلين المؤثرين في المشهد السياسي، وهو ما سنقوم به في الفصل الثاني من هذا التقرير. الفاعلون الأربعة وتأثيرهم أ- المجلس العسكري مع أن الوثيقة الدستورية تقتضي حل المجلس العسكري بعد تكوين مجلس السيادة، إلا أن المجلس العسكري حاضر في ذات الاتفاق نفسه، فمن الذي سيختار 33% من عضوية المجلس التشريعي؟ وهل مجرد الإحالة للمجلس العسكري ب”الأعضاء العسكريين في مجلس السيادة” يعني فعليًّا حل هذا المجلس وانتفاء المخاوف من المؤسسة العسكرية؟ بالتأكيد لا. تحليل علاقات القوة والسلطة يشير بوضوح إلى أن الفريق أول، محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، وهو قائد قوات الدعم السريع، هو صاحب السلطة الفعلية في هذا المجلس وذلك لعدة أسباب، أولها: أن حميدتي يسيطر على أحد المصادر الرئيسية للعملات الأجنبية في السودان، ألا وهو الذهب. ثانيها: أن حميدتي هو الأوثق علاقةً بالقوى الخارجية المؤثرة ماليًّا في المشهد السوداني، ونعني بذلك السعودية والإمارات. من الجدير بالذكر هنا أن المؤسسة العسكرية وجهاز الأمن والمخابرات تمتلك حصة كبيرة من الشركات الاستثمارية في البلاد، وهذه الشركات ليست شركات هامشية. والأهم من كل ذلك، فإن تمدد حميدتي الاقتصادي والسياسي لا يتعارض مع مصالح المؤسسة العسكرية. أما بخصوص الأفراد والقيادات في الأمن والجيش الذين يختلفون مع حميدتي في توجهه، فقد استطاع حميدتي، مؤقتًا، إسكات كل الأصوات المناوئة له في الجيش عبر الاعتقال أو التسريح (كما حدث بعد انقلاب الإسلاميين الذي أُشيع في يوليوز). أو بالدمج في قوات الدعم السريع، كما فعل مع هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات. بهذه الثروة المالية الضخمة تسلل الطموح السياسي إلى نفس حميدتي، خصوصًا بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019، والدور الذي لعبه في ذلك السقوط؛ الأمر الذي جعله بطلًا قوميًّا في تلك الأيام. بعد أبريل ، بدأ حميدتي يتمدد سياسيًّا، والتفسير الرئيسي لقبول حميدتي والمجلس العسكري ببنود الاتفاق الأخير هو عدم انكسار الشارع السوداني أمام العنف والقمع بالإضافة إلى الدور الرئيسي للضغوط الخارجية التي قادتها كل من أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي على الإمارات والسعودية للقبول بالاتفاق. مع ذلك، فهناك ثلاث نقاط ضعف يعاني منها حميدتي: شخصية، وإدارية، وهيكلية مالية. أما الشخصية، فهي افتقاره للسمعة والحنكة السياسية والكاريزما والحاضنة المجتمعية والسياسية العابرة للقبلية التي كان يتمتع بها الرئيس المخلوع، عمر البشير، هذا بالإضافة إلى كونه غريبًا على المؤسسة العسكرية وليس من أبنائها. أما الإدارية، فتتعلق بتحالفاته الداخلية والخارجية، فحميدتي هو العدو اللدود للحركات المسلحة الرئيسية في السودان، كما أنه بسبب اعتماده على التمويل الإماراتي-السعودي غير قادر على بناء علاقات متزنة مع قطر (ذات الدور المركزي في إدارة ملف سلام دارفور)، وتركيا. هذه المشكلة الإدارية تؤثِّر بصورة مباشرة على قدرة حميدتي على تحقيق السلام الشامل في السودان. ثالثًا: المشكلة الهيكلية المالية: تتعلق بقدرة حميدتي على تحقيق استقرار اقتصادي في السودان ككل على حساب سيطرته على موارد الذهب، فمن المعلوم أن من الأسباب الرئيسية للتردي الاقتصادي في السودان هو عدم الاستفادة من عائدات الذهب للمنفعة الوطنية بالإضافة إلى سوء إدارة عمليات شراء الذهب التي كانت تتم بالعملة المحلية مما تسبب في مضاعفة نسبة التضخم في الاقتصاد السوداني، لذلك فأي طموح سياسي لحميدتي لابد أن يتضمن معالجة أزمة الاقتصاد السوداني، لكن تكلفة هذه المعالجة باهظة جدًّا لحميدتي وتعني تخليه عن المصدر الأول من مصادر تمويله ألا وهو الذهب. ب- الشارع السوداني وقوى الحرية والتغيير فيما يتعلق بقيادة الحراك في السودان، فإن أكبر نقطة قوة تتمتع بها قوى الحرية والتغيير هي اكتسابها لتأييد الشارع السوداني، وهذا التأييد كان قادرًا على ترجيح كفتها في منعطفات كثيرة منذ بداية الثورة ووفر الدعم الكافي لها حتى الوصول إلى اتفاق 17 غشت. مع ذلك، فهي تعاني من ضعف هيكلي سببه اختلاف الوزن السياسي للمكونات الأساسية لهذا التحالف، مع اختلافها في التوجهات الفكرية والسياسية، بالإضافة إلى غياب القيادة الموحدة لها وعدم القدرة على خلق اتفاق على آلية اتخاذ القرار. هذا الأمر ظهر بجلاء عندما بدأت الجبهة الثورية (التي تمثل الحركات المسلحة في أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وهذه الثلاثة هي مناطق النزاع/الحروب في السودان) التي هي جزء أساسي من قوى الحرية والتغيير في الاعتراض على الاتفاق السياسي الأولي في يوليوز بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير. وفشلت جولتا المفاوضات بين الجبهة الثورية وقوى الحرية والتغيير سواء تلك التي كانت في أديس أبابا أو التي تمت في القاهرة، وهذا يعني أن الاتفاق الحالي غير مدعوم من قِبل الحركات المسلحة الرئيسية والتي لا يمكن تحقيق السلام الشامل إلا بمشاركتها. وهناك عامل آخر هو ضعف الخبرة السياسية لقيادات هذه القوى وهو ما أدى إلى الاضطراب في اختيار الأسماء المرشحة للمجلس السيادي وهو ما جعل هذه القوى تتأخر يومين عن الموعد المتفق عليه مع المجلس العسكري، وما فتح الباب لموجة اعتراضات واتهامات بعدم المهنية والشفافية لهذه القوى من قِبل الشارع السوداني. هذا الخليط غير المتجانس وغير المتناسق في العمل جعل بعض الأحزاب والمجموعات ذات القاعدة العريضة والوزن السياسي الثقيل داخل قوى الحرية والتغيير تفكر في الانفصال عن الكتلة حتى تستطيع التجهيز جيدًا لانتخابات 2022. ويُتوقع أن تزداد أسباب الخلاف بين مكونات الحرية والتغيير ذات الروابط الاقتصادية بنوع معين من القطاعات في الفترة الانتقالية التي تتضمن بطبيعتها سن تشريعات وسياسات قد تضر، على سبيل المثال، الرأسمالية الزراعية وهو ما قد يكون سببًا إضافيًّا للخلاف بين هذه الأحزاب. أخيرًا، فإن إصرار هذه القوى على السيطرة المنفردة بالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ورفضهم للتفاوض مع باقي القوى السياسية المعارضة غير الموقِّعة على إعلان الحرية والتغيير يعنى أن هذه القوى لن تقبل بالدخول في السلطة التشريعية القادمة (باقي المقاعد التي تمثل 33% من البرلمان) وستكون في خانة المعارضة لقوى الحرية والتغيير. ج- الإسلاميون أقصد بمصطلح “الإسلاميون” هنا تلك الكتلة السياسية والمجتمعية التي تشمل: حزب المؤتمر الوطني، والحركة الإسلامية، والأحزاب الإسلامية التي خرجت من النظام الحاكم مبكرًا (الجبهة الوطنية للتغيير والمؤتمر الشعبي مثلًا)، والسلفية الحركية (مثل تيار الشريعة والقانون)، وما يُعرف ب”إسلاميو الرصيف” وهي عبارة تُطلق على القواعد الشعبية التي تحمل ولاء لفكر الإسلاميين لكنها تركت أحزابهم السياسية مبكرًا. تحمل هذه الكتلة، بالرغم من عدم تجانسها، ثلاث مزايا تجعلها ذات تأثير في المعادلة السياسية. أولًا: الإسلاميون وإدارة دولاب الدولة أحد الفروق الجوهرية بين الثورة المضادة في مصر والسودان تكمن في طبيعة تغول النظام السابق في مؤسسات الدولة، ففي مصر، كان التغول يتم عن طريق ضباط الأمن المتقاعدين، ولذلك فقد كانت المؤسسة العسكرية في مصر مسيطرة على الاقتصاد من ناحية، وعلى دولاب الدولة من ناحية أخري. أما في السودان، فإن تغول النظام السابق في دولاب الدولة تم عن طريق كوادر المؤتمر الوطني وكوادر الإسلاميين ولم يكن عن طريق المؤسسة العسكرية. ومن المهم أن نعرف أن جزءًا كبير من هذه الكوادر قد تخلى عن أفكار النظام السابق وبدأ في كثير من المراجعات الفكرية ثم أسسوا أجسامًا سياسية معارضة (على سبيل المثال، مذكرة الألف أخ في 2011، ثم مبادرة “سائحون” في 2012، ثم الحركة الوطنية للتغيير في 2013، ثم انقسام غازي صلاح الدين في 2014، ثم تكوين حركة 52 في 2014، وآخرها تكوين تنسيقية الإسلاميين التي دعمت الثورة)، أو اعتزلوا العمل السياسي ككل (مثل إسلاميي الرصيف). النتيجة الطبيعية لذلك هي أن المؤسسة العسكرية في السودان لم تستطع أن تسيطر على دولاب الدولة، بل قام عدد كبير من الإسلاميين الموجودين في دولاب الدولة بدعم الثورة. فعلى سبيل المثال، قام عدد من النقابات السابقة، والتي كان يسيطر عليها كوادر النظام السابق، بحل نفسها لصالح نقابات شرعية منتخبة وأكدوا أنهم جزء أصيل من الثورة السودانية، وهذا ما حدث بالضبط لنقابة العاملين في بنك السودان المركزي وفي عدد من المؤسسات. كما أن أغلب العاملين والمديرين بالشركات الاستثمارية التابعة للجيش/الأمن هم من ضباط الإسلاميين كذلك. ثانيًا: الإسلاميون وتركة المؤتمر الوطني على طول ال30 عامًا التي حكم فيها المؤتمر الوطني البلاد، استطاع هذا الحزب أن يُنشئ شبكة علاقات سياسية مع الريف السوداني وقياداته الأهلية وطرقه الصوفية، وكان الريف السوداني هو الذي يمثِّل الثقل السياسي للمؤتمر الوطني في الانتخابات السياسية العامة. قام عدد من قادة المؤتمر الوطني بإدارة هذه الشبكة السياسية الكبيرة والفعالة طول سنوات الإنقاذ السابقة، هؤلاء القادة هم من سعى خلفهم حميدتي لمساعدته في وراثة تلك الشبكة السياسية الفعالة. فقد قام حميدتي بتعيين عدد من كبار قادة المؤتمر الوطني كمستشارين له، مثل: عبد الله صافي النور، وآدم جماع (والي كسلا السابق)، والإعلامي، الصادق الرزيقي، وعبد الماجد هارون (وكيل وزارة الإعلام السابق)، وصديق ودعة الذي حشد لحميدتي قيادات الإدارات الأهلية بدارفور لمبايعته وتفويضه، وحامد ممتاز (رئيس قطاع التنظيم السابق). أضف إلى ذلك، أن كثيرًا من الإسلاميين المعتزلين للشأن السياسي، بسبب الامتيازات المباشرة أو غير المباشرة أثناء حكم النظام السابق، أصبح لهم نفوذ اجتماعي واقتصادي لا يمكن تجاهل أثره، بالمجموع، في حال قرر هؤلاء الإسلاميون التعاون مع حكومة قادمة أو عدم التعاون. ثالثًا: الإسلاميون والقدرة على التأثير قد يعتقد كثير من الناس أن سقوط الإنقاذ كمشروع “للإسلام السياسي” يعنى أن فكر الإسلاميين لن يجد له موطئ قدم في السودان في السنوات القادمة على الأقل، لكن ما قام به “تيار الشريعة والقانون” الذي يضم كبار قادة السلفية الحركية وبعض قادة الحركة الإسلامية من حراك سياسي يدعو لحماية “الشريعة” كمصدر من مصادر التشريع في الدستور وقدرتهم على الحشد والتظاهر لا يمكن التقليل من أثرها في استقرار الفضاء السياسي. بل إن هذا الحراك لتيار الشريعة وفَّر أسبابًا وشرعية للمجلس العسكري في أيام التفاوض بينه وبين قوى الحرية والتغيير، وجعل المجلس العسكري نفسه يرفع شعار “الشريعة الإسلامية” كأحد الاعتراضات التي وجهها لقوى الحرية والتغيير. نقطة الضعف المركزية لكتلة الإسلاميين أنها كتلة غير متجانسة وغير منظمة في الوقت الراهن، وهو ما يجعلها عرضة بصورة مستمرة للتوظيف من قِبل الفاعلين السياسيين الذين سيستطيعون تحييد هذه الكتلة عن طريق تقديم خطاب سياسي توافقي غير إقصائي والقادرين كذلك على الوصول لتسوية سياسية ما باقي كوادر المؤتمر الوطني لتوظيف شبكة علاقاته مع الريف السوداني وقياداته. د- القوى الخارجية تحدثنا سابقًا عن الدور المحوري الذي لعبته القوى الخارجية في الضغط على المجلس العسكري للقبول باتفاق 17 غشت 2019، وبنود هذا الاتفاق نفسه تعكس التفاهمات الداخلية لتلك القوى التي أرادت الاستقرار السياسي في السودان، لكنها في نفس الوقت لم تُرد أن يقوم المجلس العسكري بتسليم كل السلطة للمدنيين. بعد سقوط البشير، في أبريل/نيسان 2019، حدثت معركة بين “الاتجاه الإفريقي” الذي كان يسعى لدعم التحول الديمقراطي في إفريقيا بقيادة الاتحاد الإفريقي، وبين دول “التحالف العربي الثلاث: الإمارات والسعودية ومصر”. فبينما رفض الفريق الأول، عبر مجلس السلام والأمن في الاتحاد الإفريقي، استلام المجلس العسكري للسلطة وطالبه بتسليم السلطة للمدنيين في 15 يومًا، قام الفريق الثاني بدعم المجلس العسكري ماديًّا ودبلوماسيًّا. فقد قامت الإمارات والسعودية بدعم المجلس العسكري بقيمة 3 مليارات دولار، أما مصر فقد ضغطت في الاتحاد الإفريقي لتمديد مدة تسليم السلطة للمدنيين لتصبح 90 يومًا. وبعد وقوع مجزرة القيادة العامة، قامت مصر بمحاولات لإيقاف مرسوم “تعليق عضوية” السودان في الاتحاد الإفريقي، لكن الموقف الشجاع لنيجيريا أحبط تلك المحاولات. ومع زيادة التمثيل الإفريقي في المفاوضات بعد مجزرة القيادة العامة وتدخل رئيس الوزراء الإثيوبي للتوسط بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، إلا أن الذي أثَّر بصورة مباشرة في الوصول إلى اتفاق 17 غشت هما دولتا أميركا وبريطانيا. فبعد مجزرة القيادة العامة، خشيت الدولتان من انفلات الأمن في السودان وهو ما سيهدد الأمن الإقليمي في القارة، فقامت وزارة الخارجية الأميركية بإرسال دونالد بوث، مبعوثها الخاص السابق لدولتي السودان وجنوب السودان، للوصول إلى اتفاق بين الطرفين. كان الكارت الذي أقنعت به أميركا وبريطانيا كلًّا من الإمارات والسعودية بالقبول ببنود التفاوض هو أن الأخيرتين تتحملان جزءًا من المسؤولية في مجزرة القيادة بسبب دعمهما لحميدتي، كما أنهما في حاجة ماسَّة لتخفيف الأضواء المسلطة عليهما من قِبل المجتمع الغربي، خصوصًا بعد التوبيخ الذي قدمه الكونغرس الأميركي لهما بسبب حرب اليمن وقرار المحكمة العليا البريطانية بعدم قانونية بيع الأسلحة للسعودية. أضف إلى ذلك، أن الشارع السوداني أثبت عزيمة كبيرة لا تنكسر خصوصًا بعد خروجه في مليونية 30 يونيو 2019 كتأكيد لرفضه لكل محاولات القمع، وبالتالي فلا يمكن التعامل مع هذا الشارع إلا بتكتيك دبلوماسي بدلًا من وسائل العنف. مع ذلك، فالمعسكر العربي ليس على تجانس تام، فتصور مصر لمستقبل حميدتي في السودان وعلاقته بالجيش مختلف عن تصور الإمارات والسعودية، كما أن تصورات هذه الدول الثلاث لمصالحها في السودان والقرن الإفريقي مختلفة بصورة كبيرة. أضف إلى ذلك، أن الصراع الذي يمكن أن ينشأ بين الوكلاء المحليين لهذه القوى الخارجية يؤثر كثيرًا على فاعلية خططهم على الأرض. سيناريوهات المستقبل وتحديات حكومة الحرية والتغيير الانتقالية سيواجه رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، وحكومته التي تم تعيينها مؤخرًا ثلاثة تحديات مركزية: إصلاح الوضع الاقتصادي في السودان، وتحقيق السلام الشامل والعادل، وإنجاح الفترة الانتقالية والوصول إلى انتخابات 2022. فواحدة من أهم تحديات الثورة في السودان مقارنة بكل الثورات في المنطقة أنها حدثت في وقت انهيار اقتصادي كامل، وبالتالي فالتحدي الرئيسي الذي سيواجه أي حكومة جديدة هو تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة. ولا يمكن تحقيق هذا الاستقرار الاقتصادي من دون تحقيق الاستقرار السياسي الذي يحتاج بدوره لإنهاء كل الحروب والنزاعات الأهلية عن طريق مخاطبة جذور التهميش والحرب في السودان والوصول إلى اتفاق سلام شامل مع الحركات المسلحة. وفي ظل تحليل علاقات السلطة والقوة للفاعلين الرئيسين في المشهد السوداني هناك مساران محتملان للفترة الانتقالية في السودان: أ- حميدتي وإجهاض التحول الديمقراطي وهذا سيحدث إذا استمر حميدتي في التمدد السياسي وبناء رصيد شعبي عبر تقديمه للخدمات العامة من أمن وتعليم وصحة طوال الشهور القادمة، مستفيدًا في ذلك من مصادر التمويل الكبيرة التي يسيطر عليها. لكن هذا السيناريو يتوقف على عاملين: أولهما هو قدرة حميدتي على إعادة إنتاج نفسه كفاعل سياسي وطني يجسد مصالح كل السودانيين، وهذا العامل يتضمن كذلك قدرته على تحييد أو احتواء كتلة الإسلاميين لصفه، كما يتضمن كذلك قدرة حميدتي على خلق توزان بين سيطرته على عائدات الذهب وإعادة ضبط واستقرار الاقتصاد السوداني بمنطق أن هذا التوازن ضروري لتحقيق طموحه السياسي، كما شرحنا سابقًا. ثانيهما، وهو الأهم، فشل حمدوك في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وعدم قدرته على الوصول لتسوية سياسية مع المجلس العسكري فيما يتعلق بملف “الذهب” والشركات التابعة للجيش والشرطة ومصادر التمويل المختلفة لقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى حدوث انقسامات وخلافات داخل الحرية والتغيير ستتسبب في خسارتها لتأييد الشارع السوداني. وجود هذا العامل الثاني سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية في الشارع السوداني، وسيجعل حميدتي أو قيادة الجيش (الخاضعة لحميدتي) هي “أخف الضررين” أمام شريحة معتبرة من ذلك الشارع، أما من سيرفض صعود حميدتي أو وكلائه لسدة الحكم من قوى الحرية والتغيير أو الشارع فسيُعامَل بالقمع المفرط غالبًا. ب- حمدوك والخروج من الفترة الانتقالية والوصول إلى انتخابات 2022 سيعتمد هذا السيناريو على عدة عوامل، أولًا: قدرة حمدوك على الوصول لتسوية سياسية مع المجلس العسكري فيما يتعلق بملف “الذهب” والشركات التابعة للجيش والشرطة ومصادر التمويل المختلفة لقوات الدعم السريع بما يضمن تحقيق قدر معتبر من الاستقرار الاقتصادي في البلاد. ثانيًا: قدرة حمدوك على بناء تأييد شعبي منفصل عن قوى الحرية والتغيير تسمح له بجعل الشارع يعمل ككارت ضغط يمكن استخدامه في وجه المجلس العسكري وفي وجه قوى الحرية والتغيير نفسها. ثالثًا: قدرة حمدوك على أن يسبق حميدتي في تحييد كتلة “الإسلاميين” لصالحه؛ الأمر الذي سيمكنه من الوصول إلى الريف السوداني، وتفعيل العاملين بمؤسسات الدولة لصالحه، وسيحقق له استقرارًا سياسيًّا معتبرًا. أضف إلى ذلك، أن وجود الإسلاميين في الفضاء السياسي هو عامل مساعد لبناء علاقة خارجية متزنة مع تركياوقطر، وذلك لأن حميدتي، بحكم ارتباطه المالي والسياسي بالإمارات والسعودية، سيكون ضد تكوين علاقة متزنة مع هاتين الدولتين. وجود علاقة متزنة مع قطر أمر مهم جدًّا في إدارة ملف السلام الشامل ولا يمكن تجاهله، خصوصًا أن قطر طوال السنوات العشرة السابقة كانت هي الراعية الرئيسية لمفاوضات السلام في دارفور. أيضًا، إحدى الحركات المسلحة الرئيسية، حركة العدل والمساواة، التي يرأسها جبريل إبراهيم، هي في نهاية الأمر محسوبة على الإسلاميين وأية محاولة لإقصائها ليست في صالح ملف السلام الشامل. رابعًا: نجاح الاتحاد الإفريقي في الاستمرار في لعب دور الضامن والداعم للانتقال الديمقراطي في السودان، مع مقدرة حمدوك على توظيف عدم تجانس القوى الخارجية واستثمار علاقاته مع مجتمع المؤسسات التمويلية لصالح تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد. مركز الجزيرة للدراسات بتصرف