لازلت أتذكر، أيضا، رواة القصص الذين عاشوا بين ظهرانينا وكانوا يتحفوننا بحكاياتهم طبقا لطقوس وعادات مضبوطة. قبل النوم، على سبيل المثال، كنا نستمع إلى قصة. كان بعض هؤلاء الحكواتيين قد عملوا لدى السلاطين مولاي عبدالعزيز ومولاي حفيظ، ثم الملك محمد الخامس. كانوا أصحاب ثقافة واسعة ودعابة، كما تميزوا بالكلام الصريح. كان الحكواتي المفضل عند أبي رجلا التقاه في ساحة جامع الفنا الشهيرة بمراكش. كان والدي يمشي يوما متنكرا عندما استوقفته قصة رائعة. في مساء اليوم عينه بعث سيارة شرطة لتأتيه بالراوي– وهذا عرض عمل مغر جدا. جاء بَّاجلول إلى المنزل يحمل حقيبة صغيرة وتعلو رأسه عمامة، وهو لا يدري ما المطلوب منه. بعد ذلك استقر عندنا بشكل دائم، فطاب له المقام وكان الجميع مسرورا بوجوده. سرعان ما أصبح الرجل مؤسسة وحده، حتى إذا دخل حُجرة وقف الجميع لتحيته. لقد كان رجلا خفيف الظل وكان حديثه دون مساحيق. ذات مرة وجد أبي صعوبة في الخلود للنوم وقت القيلولة، فغضب بّاجلول وأشعل النور، ثم فاجأ والدي بركلة وهو يصيح في وجهه: “اسمع يا رجل، إنك تنغِّص علينا عيشنا! أنت لا تستطيع النوم ونحن ما ذنبنا لتقتسم معنا معاناتك؟”. اندهش الجميع أمام هذه الجرأة البالغة، خاصة أن كل واحد كان يفكر في نفس الأمر في قرارة نفسه، ولكن، كيف يجرؤ الرجل على إعطاء ضربة للأمير؟ مرت لحظات حرجة ثم انفجر الجميع بالضحك. كان باستطاعة هذا الرجل أن يرتكب هذا النوع من الحماقات، لأنه دخل البيت أول مرة وكل ما يملكه جلباب واحد، ومن المرجح أن يغادره يوما، وهو لا يملك إلا جلبابا واحدا. هو لم يكن يسعى إلى الحصول على أي امتياز على الإطلاق. لقد كان يجسد “المغرب الحقيقي” أو البلد المثالي، وهذا ما عبر عنه والدي يوما حينما سأله أمام الجميع: “أنت لم تطلب مني شيئا أبدا يا باجلول! ولذلك، فأنا اليوم أسألك: ماذا تريد أن أمنح لك؟ هل تريد مزرعة أم سيارة؟ اطلب وأنا سأمنحك ما ترغب فيه!” تقاطرت النصائح والاقتراحات على الرجل من الحضور: “قل أريد مزرعة!”، “انتظر وقل إني سأفكر في الأمر”… ولكن بّاجلول استدار بسرعة ونزع سرواله صارخا: “سيدي، مشكلتي هو أنني مريض بالبواسير، إن كان لديك حل سأكون لك شاكرا”. أدوار الحكواتيين في الجانب المقابل كان للحسن الثاني، أيضا، فريق من القُصاص، منهم أصحاب الخطاب المشاكس والساخر، بالإضافة إلى الشعراء وعلماء الدين. بعد الانقلابات في عامي 1971 و1972 أصبح الحسن الثاني لا يذوق طعم النوم قبل الفجر، حوالي الساعة الخامسة. كان يشتغل في الليل، فيتصفح ملفاته وينقب في أرشيفاته. كان لديه هاجس العناية بالتفاصيل. بسبب هذا الأرق كان يستيقظ على الساعة الحادية عشر تقريبا، ثم يعود للقيلولة بعد وجبة الغذاء. كان رواة القصص يروون له الحكايات بعد تناوله الطعام قبيل استراحته. كان الحسن الثاني يصغي من خلال رواياتهم لصوت الشعب البسيط، فيلتقط مزاج هذا الأخير أكثر من استمتاعه بالأدب والشعر. بالإضافة إلى ذلك كان يوظف أولئك الحكواتيين لتسريب بعض الرسائل إلى العالم الخارجي، بخلاف ما يحدث عندنا، حيث كان يقتصر أبي على الهروب إلى عوالم خيالية من خلال القصص التي يستمع إليها. كان الحسن الثاني يستعين بالحكواتيين لربط الاتصال بحقيقة البلاد. ومع ذلك، كان الأخوَان (الحسن الثاني ومولاي عبد لله) من حين لآخر يتبادلان أولئك الرواة تماما، كما يتبادل أحدنا اليوم، أقراصا مدمجة مع صديقه لمشاهدة الأفلام. عندما كان قصاص الملك يأتون لمنزلنا، كانوا يتقاسمون الطعام مع والدي ويستمتعون بالأكل والشرب والفكاهة، وكأنهم في عطلة أو فترة استراحة. على العكس، كان بّاجلول يعيش امتحانا عسيرا كلما ذهب عند الملك. في إحدى المرات عبَّر عن رغبته في العودة لمنزلنا فقال للحسن الثاني: “سيدنا، أنا أفضل أن أذهب عند أخيك، لأني هنا أشعر وكأني في المستشفى”. ومع ذلك يحدث أن تنقلب الموازين من حين لآخر فيسخر الإحسان من المستشفى. في أحد الأيام خطرت لأبي مزحة غريبة، حيث غاص في المسبح وبقي فترة طويلة دون حراك تحت سطح الماء. اعتقد اثنان من البستانيين كانا يعتنيان بالورود أنه غرق في المسبح، فخلعا بسرعة ملابسهما وقفزا في الماء “لإنقاذه”. بعد ذلك هرع كل مَن في المنزل إلى اقتفاء أثرهما في المسبح لأن لا أحد يريد أن يُتهم بأنه تخلف عن إنقاذ الأمير من الغرق، حتى امتلأ المسبح بزهاء عشرين من “الأبطال”، من بينهم ثلاثة لا يجيدون السباحة أصلا. لما عاد والدي إلى سطح الماء، وانتهت الدعابة، تردد قليلا وتساءل، هل الأمر يدعو إلى الضحك أم إلى الحزن. الدكتور البهلوان كان بيتنا يعُجُّ بالخدم والحريم والعسكر والحكواتيين، قاسِمهم المشترك حبكُ الدسائس والتعامل بالحيل. أما عندما كان والدي يقوم بدور “الممثل الشخصي” للملك بين عامي 1970 و1974، فقد تحولت الدار إلى ما يشبه المعرض الدولي، إن لم نقل نوعا من حديقة للحيوانات الإنسانية من فرط كثرة الزوار وتنوعهم. كان والدي يسافر كثيرا في إطار واجباته، ولدى عودته من كل رحلة كان يجلب معه شيئا جديدا أو شخصا من البلاد التي زارها. فعندما زار المارشال تيتو أحضر معه طبيبا شخصيا يوغوسلافيّاً، وعندما زار كوريا الجنوبية أحضر طبيبا آخر عسكريا هو الدكتور “لي”Lee . كما عمل في منزلنا مدربان في فنون الدفاع عن النفس قدما أيضا من كوريا، هما العقيد كيم Kimوالملازم باوليBao Lee، واللذان علماني شيئا من رياضتهما وأنا في سن مبكرة. أما عندما زار باكستان، فقد أحضر معه ثلاثة ضباط في اللباس التقليدي، وقال لنا إنهم سيشتغلون عندنا بمثابة الخدم! كانت محاولة منه لعقلنة المخزن قليلا، ولكن الذي كان يحدث دائما للأسف، هو أن منزلنا يستعصي عن العقلنة والترشيد، ولكن الوافدين الجدد كانوا “يتمخزنون”. على سبيل المثال، لقد تحول الدكتور “لي”، صاحب العضلات المفتولة، إلى رجل فرجة وترفيه، فكان يغرس إبرة في عضلة ذراعه ويخرجها من الجانب الآخر ليبهر الضيوف والزوار، كما كان يضع لوحات صلبة على جسمه، ثم يطلب أن تمر سيارة فوق جسمه. أما أحد الضباط الباكستانيين الثلاثة، فقد تخلى عن زيه الباكستاني وفضل الجلباب المغربي وقرر عدم العودة إلى بلده. لقد بُترت ساقه بعد حادثة سير بينما كان في عطلة في باكستان، فطلب من والدي السماح له بالعودة إلى المغرب لمواصلة العمل عندنا بدلا من البقاء مع زوجته وأطفاله. لقد “تمخزن” الرجل بصفة نهائية لا رجعة فيها! لقد تكرر الأمر عدة مرات. بعد بضعة سنوات، وبينما كنا في رحلة إلى ولاية ميشيغان الأمريكية نتجول تحت حماية مكتب التحقيقات الفيدرالي، حاول خادمان يعملان مع أبي استخدام خط خاص للهاتف مثبت من طرف عناصر الأمن الأمريكيين، وقد كُتب عليه هذا التحذير: “مكتب التحقيقات الفدرالي. للاستعمال الرسمي فقط”. لما رأيت تصرفهم قمت بتحذيرهم من مغبة عدم احترام القانون، وربما تعرضهم للاعتقال الفوري. ولكن في اليوم التالي، اكتشفت شرطيا أمريكيا يلتهم طعام “البسطيلة” المغربي الشهير بالقرب من الهاتف، وبندقيته على الطاولة، وعلامات السرور بادية عليه، بينما الخادمان يتحدثان باطمئنان على الهاتف مع مراكش، والشرطي يقول له “خذ وقتك!”. لقد “تمخزن” الرجل الأمريكي بسرعة من طرف نظامنا! لقد قبِل أن يضحي بالاحترام المشترك والمفترض للقانون، مقابل لحظة عابرة يتزامن فيها قليل من الأنس بالإقدام على انتهاك المحرمات وتبادل الامتيازات، وهو تصرف متجذر في بنية المخزن. باختصار، لقد استوعب بسرعة فائقة تلك القاعدة الذهبية المخزنية. قلعة والدي في هذا السياق، لم يكن باستطاعة أمي أن تنجح في تغيير أبي، ولكنها كانت شريان الحياة الذي يحتاجه. كانت هي ملاذه وحصنه الذي لا يستطيع الحسن الثاني اقتحامه بسهولة، ولعلمه أن الثمن سيكون باهظا. كلما حاول الهجوم على قلعة مولاي عبدالله إلا واصطدم بلمياء الصلح، فتمنعه من المرور. من وجهة النظر هذه، كان منزلنا نوعا من قرية الغال التي تحصنت وصمدت في وجه الرومان. ولكن، وبكل صراحة، كان الجانب السلبي لهذا الصمود هو الشعور بتأنيب الضمير الذي كان يراود والدي كلما عاتبته والدتي. لقد كانت تتشوق لرؤية سلوكه وتصرفاته ترقى إلى معايير ومقاييس لم يكن هو قادرا على الالتزام بها. في كثير من الأحيان كان يتجول في جنبات البيت وكأنه حيوان مفترس مسجون في قفص. كان يرغب في المشاركة في إدارة المملكة وأن يصبح حضوره ضروريا للحسن الثاني بدل البقاء على الهامش، وكان يطمح إلى إشباع رغبته في المحبة والامتنان، لكنه لم يفلح. كانت وسيلته الوحيدة للتخلص من الضغط هي الهروب إلى الأمام والفرار من الواقع، فغالبا ما كان يركب سيارته ويمضي لتناول العشاء في ضيعته في منطقة عين العودة، على بعد نصف ساعة من الرباط. كان لدى أمي واجهتان، واحدة حاضنة عطوفة وأخرى مدمِّرة، عن غير قصد بطبيعة الحال. كانت تعاتب أبي مثلا بقولها: “انظر إلى أصدقائك ومعارفك، لم يحصل أحد منهم على جائزة نوبل! إنهم رجال البلاط، متملقون وتافهون، لا كرامة لهم ولا يفترون عن التقاط الفتات.” كان أبي معتزا جدا بزوجته، بذكائها وثقافتها، وينتشي بالافتخار بها كلما سنحت له الفرصة، ولكنه كان يعاني من صرامتها ومن طريقتها القاسية التي تجعله يشعر أنه كان خاملا، وهو الذي لم يستمع أبدا لأحد ينتقده، وخاصة من بين ساكني القصر! أما الحسن الثاني، فقد كان يلعب بمَكر على هذه الثنائية لأنه يستغل دون تردد كل نقاط ضعف غيره لكونه يحرص أن يبقى الجميع خاضعا له. ومن ثم، فإنه كلما رأى بوادر الوئام تخيم على العلاقة بين أمي وأبي إلا وسعى إلى نسفها وتأجيج الخصام بينهما، وكلما أحس بأن علاقتهما يطبعها التوتر حاول الدفع نحو مزيد من الانقسام، كأن يهمس في أذن والدتي أنه بدوره يعاني من غياب حس المبادرة عند والدي، وأنه يطمح لأن يراه يرفع التحديات.