ماذا يجب على كتاب الرواية السياسية أن يفعلوه كي يصبحوا أكثر إثارة للاهتمام؟ هذا الفن ليس سهلا، فهو يحمل رسالته في ذاته. رسالة ممتعة بقدر ما هي خطرة. في هذه السلسلة، يحاول الكاتب أن يؤسس لتصور حول مشروع للطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية السياسية. يلجأ الكاتب السوري خالد خليفة إلى عملية التخييل في روايته الشيقة “لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة”، ليروي أحداث تفكك عائلة عربية دمرت كل أحلامها وهي تقاوم وحشية نظام بشار الأسد، تدور أحداثها بمدينة حلب خلال الفترة الواقعة بين ستينيات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ولم يعد من شغل لديهم إلا التفكير في التخلص من جثة الأم التي تهالكت، وأصبحت كقطعة الخردة المتجاوزة. وهو في هذه العملية الفنية يرمز إلى واقع المجتمعات العربية التي أصبحت تعاني من التفكك والتشرذم، بفعل همجية ووحشية الأنظمة السياسية بها. كما أنها في العمق أصبحت متجاوزة لتكلسها في مراحل تاريخية معينة. وفيها نقرأ “العودة للبحث عن العائلة يعني فشلنا جميعا في البحث عن ذاتنا. بحثٌ عن رغبة الانتماء مرة أخرى إلى الجموع التي امتدحنا لسنوات طويلة قدرتنا على عدم الاندماج بتفاهتها.” وفي رواية “الشرارة: انتفاضات في البلدان العربية ويليها بالنار” تأليف الطاهر بنجلون، ترجمة حسين عمر، تناول ما عصف بالعالم العربي من ثورات غير مسبوقة منذ نونبر 2010، ومن خلالها يحاول الإجابة عن الكثير من الأسئلة، من قبيل: هم الفاعلون الحقيقيون في هذه الثورات؟ وكيف انهارت أنظمة دكتاتورية في بضعة أشهر؟ وما هي فرص نجاح هذه الثورات؟ وأما رواية بالنار، فهي امتداد للرواية الأولى، وفيها يقول الكاتب: “في السابع عشر من دجنبر 2010، أوقد محمد البوعزيزي النار في جسده… كان هذا التصرف الراديكالي بمثابة إشارة اندلاع ثورة الياسمين في تونس”. ويعيد الطاهر بنجلون، في تخيل موجز، واقعي وشاعري، تشكيل الأيام التي سبقت هذه التضحية، في تكريمٍ رائعٍ للثورات العربية ولهؤلاء الملايين من الرجال والنساء المجهولين الذين ينزلون إلى الشوارع ويطالبون بالحرية والكرامة في بلدانهم. في روايتها «وقائع الصيف الماضي»، التي صدرت باللغة الإنجليزية عن دار “تايم دوغان بوكس” بلندن الشهر الماضي، تقوم الكاتبة والصحفية المصرية ياسمين الرشيدي بالكشف عن الاضطراب السياسي في البلاد، من خلال عدسة فتاة مراهقة في القاهرة، حيث تكشف لنا الرواية ما حدث خلال ثلاثة من فصول الصيف، الأول: صيف عام 1984، حين أتى حسني مبارك إلى الحكم، واختفى والدها في ظروف غامضة. وصيف عام 1998 حين بدأت بدراسة الإخراج في الجامعة وبدأت تظهر مواقفها ضد القمع السياسي. وصيف عام 2014، حين عاد شملها ليجتمع مع والدها في أعقاب الثورة. تحدثت ياسمين الرشيدي عن مضمون روايتها فقالت: “السؤال الذي طرحته على نفسي كمصرية، هو: هل يمكنني استكشاف هذه المنطقة الرمادية؟ وهل انتهى عصر الحقائق ليبدأ عصر الرواية والتوقعات ذات النكهات المختلفة؟ كنت مهتمة بإخفاقات الذاكرة، والرقابة الناعمة على المجتمع والثقافة، ومحو التاريخ السياسي”. في روايته الفنتازية القاتمة «فرانكشتاين في بغداد»، ينطلق القاص العراقي أحمد السعداوي من فرضية قصة رعب ماري شيلي ليحولها إلى رمز مؤرق للعنف الطائفي، حيث يقوم أحد الباعة الجائلين في شوارع بغداد بجمع أشلاء جسد من الأجساد التي تمزقت بفعل إحدى الهجمات الطائفية، ويدمجها معا ليصنع منها وحشا. هذه الجثة المركبة تدب فيها الحياة وتبدأ بالانتقام من المسؤولين عن هذا الموت الفظيع، حيث تقوم بقتل الشيعة والسنة والمجرمين والقوات الحكومية على حد سواء، دون التفريق بين أحد منهم. في مقابلة له مع “نيويورك تايمز” قال السعداوي: “كنت أحاول التقاط غوامض الأخلاق في هذه الحرب، حيث لم يعد أحد بريئا في هذه الحرب، وفي عمليات العنف المرافقة لها”. والجدير بالذكر أن معظم هذه الروايات دخلت مرحلة الترجمة، وبشكل خاص للغة الإنجليزية، الشيء الذي ينبئ عن اهتمام الغرب بالمعرفة بالأحداث التي وقعت في هذه الثورات، من خلال قراءة السرد العربي عنها. هذه جملة من الروايات التي رصدت ثورات الربيع العربي، والتي لعبت دور التأريخ لهذه الأحداث التي لم تندمل جراحها بعد، ولعل القيام المتأخر للثورة السودانية والجزائرية عربون على أن الأنظمة العربية لازالت تعاني من ويلات الفساد والفقر. فهل الانتقال من ديكتاتورية الحكام إلى دكتاتورية الجماهير كفيل بقيام الديمقراطية؟.