“يتقاسم الصحفي مع كل الديماغوجيين، الإفلات من أي التصنيف اجتماعي ثابت، فهو ينتمي إلى نوع من شريحة المنبوذين التي يحكم عليها في “المجتمع” باستمرار، تبعا لتصرف ممثليها الأقل كرامة من وجهة نظر أخلاقية”. (ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة ص300 ).
استجابة لطلب العديد من أصدقاء صحفيين مهنيين، وحقوقيين، أقدم هذه المقالة التفصيلية حول الميثاق الوطني لأخلاقيات مهنة الصحافة بالمغرب، من موقع الحقل الحقوقي، إذ سبق واشتغلنا على هذا الموضوع عدة سنوات، سواء فيما يخص قانون الصحافة والنشر أو التدبير الذاتي للمهنة وأيضا للدفاع عن حرية وحقوق عدد من الصحفيين الذين تم المساس بحقوقهم. يستعرض الفقيه الدستوري النمساوي هانس كلسن في هرمه التشريعي إلى ثلاث مجالات للتشريع، الدستور يليه القوانين، ثم القرارات واللوائح الوزارية، وفي حالتنا المغربية، فإنه يترجم هرم كلسن وفق ما يلي: أعلى قانون هو الدستور ثم يليه القوانين التنظيمية وقوانين الإطار، القوانين العادية، المراسيم وأخيرا والقرارات والمقررات الوزارية، والدولة لا يمكن أن تشتغل إلا وفق هذا الهرم التشريعي بشكل أورتودوكسي. إلا أن بعض المهن النبيلة مثل المحاماة والطب والصحافة … ونظرا لكون هؤلاء المهنيين يوجدون تاريخيا في الصفوف الأمامية في مواجهة الأنظمة السلطوية والاستبدادية، ولكون أيضا أن ما ينجم عن ذلك من أضرار يتأثر به المجتمع ككل، فقد اهتدت البشرية إلى وضع مواثيق أخلاقية تصون أولا حقوقهم، وثانيا تقييدهم بمجموعة من الضوابط التي يجب أن يتحلوا بها، وكل ذلك في إطار مبادئ الحرية وحقوق الإنسان والحريات والعدالة والمساواة. وهذه المواثيق توجد في منزلة بين المنزلتين: هي الأقل من التشريع والأكثر من ضوابط المعيش اليومي، هي مرتبطة باسمها، أي الأخلاقيات والسلوكيات وليست جنائية، بل هي قواعد ضبطية Régulation. وفي هذا السياق نناقش ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة بالمغرب، المنشور في الجريدة لرسمية بتاريخ 29 يوليوز 2019. أولا: ميثاق جنائي وليس ضبطي يتكون الميثاق موضوع المقالة من 33 بندا، وهو يقارب عدد بنود الميثاق الذي أصدرته الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير، سنة 2002، كما أنهما متقاربان أيضا من حيث الهندسة والتبويب، إلا أن الموضوعات بين الميثاقين مختلفتين ومتعارضين بشكل مطلق في كثير من البنود. الملاحظة العامة لميثاق المجلس الوطني للصحافة، أن بنوده جميعها عبارة عن التزامات وقيود وجب على الصحفي الانصياع لها، باستثناء البند الأخير المعنون ب” التعاقد والكرامة”، كما أن أغلبها عبارة عن إعادة صياغة بعض مواد وفصول القانون الجنائي وقانون الصحافة والنشر بلغة أكثر فضفاضة وعمومية. وفي هذا السياق نوضح ما يلي، يتحدث الميثاق في: البند 1.3 أن “الاختلاق والتضليل ونشر الأخبار الكاذبة، أو فبركة الصور أو الفيديوهات والافتراء …، تعتبر خرقا سافراً لأحكام هذا الميثاق” مع العلم أن هذا المقتضى مجرم جنائيا، من خلال الفصل 447، إذا كان القصد من ورائه سوء النية، في حين أن الميثاق يتركه عاما وقابلا لأي تأويل. البند 1.4: “كل تحريف في هوية العاملين أو مهامهم أو تزوير في عدد قراء الصحف، أو استعمال لزوار وهميين للمواقع الإلكترونية، يعتبر إخلالا بأحكام هذا الميثاق” تتعلق بالمادة 27 والمادة 47 من قانون الصحافة والنشر . البند 1.5 “يجب التنبيه بشكل صريح إلى إعادة تمثيل الوقائع في حالة الاستعانة بها كوسيلة للاستيعاب الجيد للأحداث في المواد الإعلامية” هذه المادة تدخل في إطار “الزوائد” التي نخصص لها محورا خاصا. البند 1.6 “الرأي من حيث المبدأ حر، ولا يمكن تقييده بأي شكل من الأشكال، إلا أنه ليس عشوائيا ..”. وهنا يبقى مفهوم “العشوائية” قابلا لأي تأويل، ولا وجود لأي سند له لا في القوانين ولا الأعراف ولا في مواثيق حقوق الإنسان. البند 1.7: “لابد أن تكون مصادر الأخبار معلومة وأن يتعامل معها بحس نقدي ويعرف بها، وإذا دعت الضرورة الملحة إلى عدم الكشف عن مصدر من المصادر”. من أخطر ما ورد في الميثاق هذا المقتضى الذي يتنافى وكل المعايير الدولية، التي تجعل أن الأصل سرية المصادر ولا يمكن الكشف عنها إلا للضرورة بمقتضى قانوني، ويكفي أن نعود لميثاق من التربة المغربية، وهو ميثاق الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة لسنة 2002 التي تنص على “يحافظ الصحفي على السر المهني ولا يكشف عن مصادر معلوماته، وذلك بالامتناع عن ذكر اسم صاحب الخبر أو مصدره. ولا يتم الكشف عن مصادر الأخبار والمعلومات إلا في الحالات التي يحددها القانون”. (البند الثالث). والغريب أن هذا المقتضى تجاوز حتى القانون الذي ينص في المادة 5 من قانون الصحافة والنشر على “سرية مصادر الخبر مضمونة ولا يمكن الكشف عنها إلا بمقرر قضائي في حالتين …”. البند 1.8: “على الصحافي تجنب اللجوء للطرق والوسائل غير الشريفة للوصول إلى المعلومات والأخبار”. من المقتضيات الغريبة هي ربط الحصول على المعلومات بالطرق “الشريفة” وهو أيضا مفهوم غريب عن الحقل الدلالي القانوني المغربي، وفي حين يمكن تعويضها بالطرق غير القانونية أو غير المشروعة … وهذا البند أيضا يدخل في إطار “الزوائد”. 1.9 ” يقتضي الواجب تقديم مواد بشكل يستطيع معه المتلقي التمييز بوضوح بين الخبر والتعليق، لأن الخلط المقصود بين المعطى الخام والرأي الشخصي يعتبر خداعا”. إن هذا البند يمكن أن يقود عشرات الصحفيين إلى السجن أو تسحب بطاقتهم، فقط إذا قام أي شخص وادعى أنه لم يستطع التمييز بشكل واضح بين الخبر والتعليق، كما أن “الخداع” جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي وأيضا قانون حماية المستهلك رقم 08.31. في حين أن البند 8 من ميثاق الهيئة المستقلة كان واضحا وراقيا وبلغة أنيقة، منذ سنة 2002 “يجب على الصحفي اجتناب الخلط بين التعليق والخبر .وأثناء التعليق يستحضر ضرورة التوازن، واحترام التعدد كقاعدة أساسية للعمل الصحفي”. سنتوقف على سرد هذه الأمثلة حتى لا نتقل كاهل القارئ الكريم، لنطرح سؤالا، هل يمكن أن يحل المجلس الوطني للصحافة محل القضاء؟ والنطق بأحكامه؟ ثانيا: المس باستقلالية القضاء ينص الفصل 107 من الدستور أن القضاء سلطة مستقلة، وبالتالي لا يمكن أن يحل محلها أي جهاز أو مؤسسة أخرى. وبالعودة لاختصاصات المجلس فيما يتعلق بأخلاقيات المهنة، فإن من أدواره الوساطة والتحكيم، وكان المشرع المغربي ذكي في الفصل بين هاذين المجالين والقضاء كسلطة مستقلة. فالمادة 2 من قانون 13.90 تحدد مجال الوساطة فقط في النزعات، ولا يقول القانون بخرق القانون أو القضايا الجنائية، فقط النزعات التي تقع بين المهنيين أو بين هؤلاء والأغيار. ويحدد مجال التحكيم بشكل حصري بين الصحفيين المهنيين، ولا يمكن ممارسة التحكيم نهائيا مع الأغيار، وبالتالي فتحريك المادة 36 من نفس القانون لا يمكن أن تكون إلا في حدود هذه الاختصاصات المؤطرة قانونا بموجب المواد من 24 إلى 29. إلا أذا كان أصحاب المجلس يريد أن يتحول من ضابط بالمعنى التدبير إلى “بوليسي” على الصحافة، ومع ذلك فإن أي إخلال بمقتضى هذه المواد يمكن لأي صحفي مهني اللجوء إلى القضاء الإداري لوقف أي قرار منحرف عن اختصاصاته المجلس الأصلي ولو كان ذلك منصوص عليه في وثيقة ميثاق الأخلاقيات. إن المشرع المغربي رسم حدود مجلس الصحافة وهو التدبير الذاتي للمهنة، وليسوا قضاة للحكم بين الصحفيين أو الصحفيين والأغيار وإنما نهج وساطة الصلح فيما لا يعد خرقا للقانون سواء بشقه الجنائي أو قانون الصحافة والنشر، وإجراء التحكيم بين “الزملاء” وليس “التحكم” بمقتضى ميثاق زجري. إن الدفاع عن استقلالية القضاء تدفع إلى التساؤل حول الأمن القانوني المغربي، ويقصد به بالإضافة إلى احترام هرمية هانس كلسن الواردة في هذه المقالة، أيضا القاموس القانوني المغربي الخالص، فمفردات مثل “طرق غير شريفة”، البذاءة، العشوائية، الإثارة المجانية، العمل المشين … التي وردت في الميثاق، وهي مصطلحات غريبة عن التشريع المغربي، تدفعنا إلى التساؤل عن مصدرها. ثالثا: تشويه التجارب الدولية المثلى إن الاستعانة بالتجارب الفضلى والمثلى في سياق إعداد نص تشريعي أو ميثاق أخلاقي وأيضا سياسة عموم، وأكثر من ذلك يقتضي الأمر أيضا الاستعانة بالتراكم المغربي الأصيل، كميثاق الهيئة المستقلة لأخلاقيات حرية التعبير وأيضا لإنتاجات الحركة الحقوقية والمدنية، يعتبر أمرا محمودا، بل وضروريا للتجربة المغربية التي اهتمت بالموضوع، وهذا ما لم نلاحظه في الميثاق الوطني لأخلاقيات مهنة الصحافة بالمغرب. ويمكن إعطاء نموذج صغير في هذا الموضوع ويتعلق بالتجربة الألمانية، فمن خلال “دليل الصحافة الألمانية، إرشادات العمل الصحفي بناء على توصية مجلس الصحافة الألماني” « German Press Code, Guidelines for journalistic work as recommended by the German Press Council » الرابط : https://www.presserat.de/fileadmin/user_upload/Downloads_Dateien/Pressekodex13english_web.pdf نجد أن الفقرة الرابعة منه (ص 4) تنص على : Dishonest methods must not be used to acquire person-related news, information or photographs وفي الترجمة عبر محرك غوغل نجد : “يجب عدم استخدام الطرقغير الشريفة للحصول على الأخبار أو المعلومات أو الصور المتعلقة بالأشخاص.” إلا أن الفقرة 5 من نفس الدليل (ص 5) تؤكد أن: يجب أن تحترم الصحافة السر المهني، وأن تستفيد من الحق في رفض الشهادة،والحق في عدم الكشف عن هويات المصدر حين دون إذن صريح منهم. The Press shall respect professional secrecy, make use of the right to refuse to bear witness and shall not reveal informants‘ identities without their explicit permission. وهو ما يخالف كمثال البند 8 من الميثاق المغربي للصحافة. إن موضوع التجارب المقارنة وحده يحتاج إلى مقالة مستقلة ومنفردة، نلتزم بنشرها قريبا. على سبيل الختم نختم هذه المقالات بثلاث ملاحظات: الملاحظة الأولى: نشر قاضي النيابة العامة بالدار البيضاء، الأستاذ حكيم وردي، ينوه بشكل كبير بميثاق المجلس، بل وصف المجلس الوطني للصحافة ب”القضاء الزملاء ” وفق ما هو منصوص عليه في القانون وأيضا النظام الداخلي للمجلس. أولا وصف آلية تدبير الذاتي للمهنة بالقضاء هو مس باستقلالية القضاء، والنظام القضائي المغربي بين في هذه النازلة، ومس أيضا بروح وفلسفة هيئات الحكامة والتدبير، فحتى حكماء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، لا نطلق عليهم هذه التوصيف. ثانيا حسب علمنا إلى اليوم لم يصدر المجلس الوطني للصحافة نظامه الداخلي من أجل الاستناد عليه كحجة. ثالثا وأخيرا، إن مجرد تنويه النيابة العامة بشكل كبير جدا بالميثاق، وهي نفسه التي حشدت كل السيوف القانونية والأدبية من أجل سجن الصحفي حميد المهداوي، لدليل على النفس الزجري والعقابي لهذه الوثيقة. الملاحظة الثانية: تتعلق بمقولة ماكس فيبر المومأ إليها أعلاه، وسندها تتعلق بالدراسة التي قام بها الباحث الالماني حول الحزب الاشتراكي الديمقراطي، نشر دراسة جد معمقة حول “سوسيولوجيا ماهية الصحافة” سنة 1910، إذ يؤكد استنتاجاته “أما خروج الزعماء الحزبيين من وسط صحافي، فكان أمرا استثنائيا، ويعود السبب إلى “عدم التفرغ الحر” الواضح جدا في الصحافة” (ص 302). نقدم هذه الملاحظة ونستحضر الحوار الذي أجراه رئيس المجلس الوطني للصحافة مع موقع هسبريس بتاريخ 23 أكتوبر 2018، إذ قال “سأوقف جميع الأنشطة السياسية والتنفيذية خلال فترة تولي رئاسة المجلس الوطني، وسأتجنب إصدار مواقف أو كتابات تدخل في نطاق الجدل السياسي”. ونستحضر في نفس الوقت أيضا اللقاءات والاجتماعات التي شارك فيها طيلة ستة الأشهر الأخيرة وكذلك بعض “الإجراءات”، لنخلص أنه في الوقت الذي كان العديد من الحقوقيين والمهنيين يخشون من التماهي والتداخل بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية والمجلس الوطني للصحافة، فتأكد أن هذا الأخير، صبغت عليه من بداياته “الملحقة الحزبية”.