أمام التلاميذ الذين حصلوا على الباكالوريا هذا العام خيارات متعددة لاستكمال دراستهم الجامعية؛ أصحاب المعدلات المرتفعة سيكون بإمكانهم التوجه بسهولة نحو معاهد ومدارس النخبة ذات الاستقطاب المحدود، بينما سيجد أصحاب المعدلات المتدنية أنفسهم أمام إمكانية الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي ذات الاستقطاب المفتوح، أو التوجه نحو بدائل أخرى مثل مؤسسات التكوين المهني، التي باتت تستقطب عددا مهما من الطلاب بسبب تنوع الشعب والتخصصات، وتمكينهم من المنحة الجامعية. وبين الشريحتين، هنالك شريحة ثالثة من أبناء الأسر الغنية ممن يعوزها المعدل المرتفع للولوج إلى مدارس ومعاهد النخبة، فتستعمل سلاحها الثاني، وهو المال للولوج إلى مؤسسات النخبة في القطاع الخاص بمعدلات أقل، أو التوجه نحو الخارج، وبالخصوص فرنسا، للحصول على الشهادات التي تريد. ورغم تعدد هذه الخيارات، فإن فوارق اجتماعية واقتصادية وترابية حاسمة من تحدد توجهات التلاميذ واختياراتهم، بل تعيد إنتاج نفسها على مستوى المدرسة وفي التعليم العالي، هذا الأخير، ربما، يكرّسها أكثر على مستوى سوق الشغل، والترقي الاجتماعي. الاختيارات المتاحة توفر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للتلاميذ الحاصلين على الباكالوريا اختيارات متعددة؛ على رأسها المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المحدود، مثل كليات الطب والصيدلة، والأقسام التحضيرية التي تؤهل الطلاب للولوج إلى مدارس ومعاهد المهندسين، والمعاهد العليا للتجارة وإدارة المقاولات، والمدارس الوطنية للتجارة والتسيير، والأكاديمية والمدارس العسكرية والأمنية المختلفة، وهي مؤسسات تشترط للولوج إليها معدلات مرتفعة لا تقل عن 14 من 20، وبعضها ينظم مباريات لانتقاء المؤهلين في المواد ذات الأولوية بالنسبة إلى كل تخصص، وإن كان المشترك بينهم، علاوة على المعدل، التمكن من اللغات، وأساسا الفرنسية. الاختيار الثاني، المفتوح أمام الطلبة الجدد الحاصلين على الباكالوريا، يتمثل في مؤسسات التعليم العالي ذات الاستقطاب المفتوح، مثل كليات الحقوق والاقتصاد، وكليات الآداب، وكليات العلوم، والمدارس العليا للأساتذة، ويعد الولوج إلى هذه المؤسسات مفتوحا، وبدون اشتراطات محددة بدقة، لذلك، فإن كل تلميذ حاصل على البكالوريا لم يقبل في أي من المدارس والمؤسسات ذات الاستقطاب المحدود، يتوجه نحو الجامعات والمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح. غير أنه في السنوات الأخيرة، باتت الدولة تقدم اختيارا ثالثا أمام التلاميذ، خصوصا الحاصلين على الباكالوريا المهنية، من أجل مواصلة دراستهم في معاهد التكوين المهني بعد الباكالوريا، للراغبين منهم في الحصول على شهادة تقني متخصص. من خلال الإحصاءات التي تقدمها وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، بمناسبة كل دخول جامعي، يظهر أن هناك اختلالا كبيرا في التوازن، ذلك أنه من مجموع ما يناهز عن 860 ألف طالب وطالبة، هناك ما يناهز 86 في المائة يتوجهون نحو المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح. علما أن 55 في المائة من الطلبة الذين يتوجهون نحو هذه المؤسسات يختارون كليات الحقوق والاقتصاد. بينما لا تستقطب المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود سوى 14 في المائة. وضمن نسبة 14 في المائة المتبقية من الطلبة الذين يتوجهون نحو المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود، وعددهم نحو 122 ألف طالب وطالبة، ثم إن الأرقام الرسمية بيّنت أن الأغلبية تتوجه نحو كليات العلوم والتقنيات، وكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان، ومدارس علوم المهندس، ومدارس التجارة والتسيير. أما بخصوص التكوين المهني، فإن الأرقام التي تقدمها الوزارة لحد الآن عامة، وتشمل كل من يتوجه إلى التكوين المهني بما فيها المؤسسات التي تشترط شهادة الباكالوريا، وعلى وجه العموم يلاحظ من خلال إحصائيات أن هناك تطورا مستمرا في السنوات الأخيرة في عدد المتدربين في معاهد التكوين، العمومية منها والخاصة، بحيث يناهز العدد 600 ألف متدربة ومتدرب. وتعول الحكومة خلال السنوات المقبلة الرفع من عدد الطلبة المسجلين بالمسالك الممهننة بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح للوصول إلى نسبة 10 % في أفق 2021-2022. وبحسب تقرير للمجلس الأعلى للتربية والتكوين حول التعليم العالي، فإن عدد مؤسسات التكوين المهني ما بعد الباكالوريا بلغ 1937 مؤسسة عمومية وخاصة، استقبلت خلال السنة الدراسية 2016-2017 ما يناهز 143 ألف متدرب، من أجل الحصول على دبلوم تقني متخصص، وتكوّن المؤسسات العمومية وحدها أغلبية هؤلاء المتدربين بنسبة 80 في المائة. ويعد التعليم العالي الخاص نمطا جديدا في منظومة التعليم العالي بالمغرب، إذ تحول من نمط المؤسسة الواحدة إلى نمط المؤسسات الخاصة منذ سنة 2010، بفعل إقرار نصوص قانونية تسمح بإحداث جامعات وكليات خاصة، وبمعادلة الشهادات. وقد عرف هذا النمط تطورا جوهريا سنة 2014 و2015 بفعل إقرار النصوص المتعلقة باعتراف الدولة بالمؤسسات الخاصة وبشهاداتها، وبمأسسة نوع من التشاركية بين القطاع العام والخاص، وهكذا قفزت أعداد الطلبة المسجلين في مؤسسات قائمة على شراكة بين القطاعين العام والخاص من 1047 إلى 6030 طالبا، وارتفع العدد بنسبة 10 في المائة ما بين سنتي 2013 و2017. وخلال سنتي 2016 و2017 ارتفعت النسبة ب15 في المائة. وخلال مداخلة رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، في البرلمان في إطار الجلسة الشهرية، قبل أشهر كشف أن حكومته تشجع إحداث مؤسسات التعليم العالي الخاص مع ضمان جودة التكوين، مؤكدا أن الحكومة منحت اعتراف الدولة ل 23 جامعة ومؤسسة للتعليم العالي الخاص، ويوجد 25 طلبا آخر في طور التقييم. ورغم توفير الدولة خيار التعليم الخاص في المغرب منذ سنة 2010 كما سبقت الإشارة، لازال هناك إقبال على الخارج، وبحسب إحصاءات فرنسية، فإن عدد الطلاب المغاربة في الجامعات الفرنسية يناهز 38 ألف طالب، وتعد الشريحة الأكبر بين مختلف الطلاب الأجانب في فرنسا. ويرجع ارتفاع هذا الرقم لأسباب عدة، منها طبيعة وخصوصية النخب المغربية في علاقتها بفرنسا، وطبيعة النظام الاقتصادي والمالي المغربي القائم، علاوة على نمط الاستقطاب الذي تنهجه فرنسا الرسمية تجاه التلاميذ النجباء في مستعمراتها القديمة، ويكفي هناك الإشارة إلى الاتفاقيات التي تيسر استقطاب التلاميذ المغاربة في المدارس التحضيرية لاستكمال دراستهم في المعاهد ومدارس الهندسة بفرنسا. ومن خلال هذا الوضع، يبدو كيف أن منظومة التعليم العالي في المغرب مشتتة وغير متجانسة، ولا تسمح بأي جسور بين مؤسسات التعليم الجامعي مثلا، ومؤسسات تكوين الأطر، أو مؤسسات التكوين المهني، وهو ما يكرس التنافر في العلاقات، وطبيعة الاشتغال، والنتيجة، بحسب تقرير المجلس الأعلى للتعليم، هي “أن حركية الطلبة أو الاعتراف بالمكتسبات عند اختتام الوحدات والاعتمادات والتداريب والتجارب المختلفة، التي تسم المسارات المهنية، تظل محدودة بشكل مثير”. فوارق ترهق الأسر غير أن الاختيارات وتوجهات التلاميذ لا تحسم فيها المعدلات المرتفعة أو ما توفره الدولة من عرض جامعي، بل تتحكم فيها عوامل أخرى. محمد أقديم، مستشار في التوجيه والتخطيط التربوي، يرى أن اختيارات التلاميذ تتحكم فيها طيلة مسارهم الدراسي ثلاثة عناصر: الأسرة والأستاذ والتلميذ نفسه. تلعب الأسرة موجها رئيسا في مرحلة ما بين الابتدائي والإعدادي، ويتوقف ذلك على خلفيتها الاجتماعية ومستواها التعليمي، ففي حال الأسر الفقيرة، والتي يكون فيها الوالدين أميين مثلا، يكون للأسر دور محدود جدا في توجيه أبنائها، على خلاف الأسر المتعلمة من الطبقى الوسطى فما فوق، التي تلعب دورا حاسما في توجيه أبنائها، ابتداء من الاختيار بين التعليم العمومي والخصوصي. ويلاحظ أقديم أن الأسر، من الطبقة الوسطى خصوصا، أصبحت مهتمة أكثر بمستقبل أبنائها في ظل تدهور المدرسة العمومية والتعليم الجامعي، “إيمانا منها بأن التعليم هو سلم الترقي الاجتماعي الوحيد المتبقي لها، والطريق الممكن والسهل نحو تغيير الوضعية الاجتماعية”، ويضيف أقديم أن هناك “توجها ووعيا متزايدا لدى الأسر بضرورة الاستثمار في الأبناء، وهناك من يبيع الضروريات، ويتخلى عن الحاجيات، من أجل تعليم أبنائه بشكل أفضل”. ويؤكد أقديم أن الإرهاق الذي تعاني منه الأسر سببه “سياسة الدولة في التعليم، التي أدت إلى تراجع قيمة المدرسة العمومية، لصالح المدرسة الخصوصية، على مستوى الجودة”، علما أن “التعليم الخصوصي يقتات على حساب التعليم العمومي، وخصوصا موارده البشرية، حيث يستقطب الكفاءات من التعليم العمومي، لأنه غير قادر على إنتاج أطره الخاصة. من جهته، يؤكد رشيد أوراز، باحث اقتصادي، أن الطبقة الوسطى باتت “منهكة بسبب الإنفاق المتزايد على الخدمات، وخصوصا التعليم”، مؤكدا أن “هذه الطبقة تدفع الضرائب للدولة على أساس الحصول على خدمات ذات جودة، لكن في ظل تراجع جودة التعليم العمومي تلجأ هذه الطبقة إلى التعليم الخصوصي لإنقاذ أبنائها، وهكذا نجدها تدفع مرتين، مرة للدولة ومرة للقطاع الخاص”، مؤكدا أن الموظف أو الأجير في المدن “أغلبهم يدرسون أبناءهم في التعليم الخاص، وهذا يجعلهم يدفعون الضريبة للدولة بدون أن تقدم لهم هذه الأخيرة الخدمة الضرورية، وعلى رأسها التعليم”. تعليم عال يكرس الفوارق يعاني نظام التعليم العالي، الموروث من النظام الفرنسي، بحسب دراسة للمجلس الأعلى للتعليم من “الانشطار والتراتبية بين نظامين؛ نظام الولوج المفتوح ونظام الولوج المحدود”، ما لذلك من انعكاسات سلبية على مستوى التمثلات لدى الرأي العام، وعلى مستوى جودة التكوينات، وتكلفة الطالب، حيث إن مؤسسات الولوج المحدود تحظى بالتقدير والتنافس، بينما يعاني نظام الولوج المفتوح من نظرة سلبية. وبالتحاق أنماط جديدة من التعليم العالي، يظهر أن الازدواجيات والفوارق تتعمق أكثر، بين مؤسسات للولوج المفتوح وأخرى للولوج المحدود، وثانيا بين نظام عمومي وآخر خصوصي، ليس بالأهمية نفسها والقيمة الاجتماعية والعلمية، ويقدم للطلبة والمجتمع باعتبارهما نظامين غير متساويين، وهما أبعد ما يكونان عن تكريس تكافؤ الفرص بين أبناء المغاربة. ومن نتائج هذه الوضعية، أن نظام الاستقطاب المفتوح هو الذي يسجل أعلى نسب الهدر داخل الجامعة، حيث يغادر 64 في المائة من الطلبة مقاعد الدراسة بدون شهادة، وينقطع عنها 25,2 في المائة، و40,2 بعد سنتين من الدراسة. ويعزى هذا الوضع، حسب دراسة للمجلس الأعلى للتربية والتعليم، إلى “التراتبية المزدوجة مع جمود وانغلاق النظام السبب الرئيس في عدم تعزيز تغير المسار الدراسي للطلبة”. وهي “تراتبية لا تقوم على أساس الاستحقاق، وإنما على أساس المواد التي تعتبر قيمة بعضها أكبر من قيمة الأخرى حسب معايير سوق الشغل”، ومن بين نتائج هذه الثنائية “الصورة السلبية التي يكونها الطلبة والمجتمع بخصوص مؤسسات الاستقطاب المفتوح، والتقليل من قيمة شهادات خريجيها، مما يؤدي إلى فوارق في القيمة الاجتماعية والمهنية للشهادات المختلفة”. الدراسة أكدت أن التفاوتات المرتبطة بترابية نظامي التعليم العالي تخلق الفوارق بين الشباب الحاملين للشهادات الجامعية في إمكانات الحصول على شغل. بحيث لا يوجد أي تناسب بين حظوظ خريجي مؤسسات الاستقطاب المفتوح (الذي يعاني 70 في المائة منهم من البطالة)، للحصول على شغل، وحظوظ خريجي مؤسسات الاستقطاب المحدود، وهو ما يؤدي إلى التقهقر الاجتماعي لأعداد كبيرة من هؤلاء الطلبة، ويعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية”. الحكومة حاولت أن تخلق مؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح تكون وسيطة بين النظامين، وتساهم في توسيع قاعدة الطلاب في المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود، لكن من بين نتائج هذه الاختيار بروز ظاهرة جديدة تتمثل في بطالة خريجي المدارس والمعاهد العليا، حيث تقدر النسبة حاليا بما يناهز 10 في المائة، وهو ما يقارب أو يعادل المعدل الوطني في البطالة. الخلاصة، يؤكد أقديم، أن المدرسة العمومية تهدف إلى تكافؤ الفرص بين مختلف التلاميذ بغض النظر عن اختلافاتهم الفردية والأسرية، وخصوصا التمييز الإيجاب لصالح أبناء الفقراء من المتميزين دراسيا، لكن يبدو “أن هذا الهدف فشلت فيه المدرسة العمومية، لأن الفوارق باتت تتعمق باستمرار، خصوصا في ظل اتساع التعليم الخصوصي، وهكذا صارت المدرسة تعيد إنتاج الفوارق بدل ردمها”.