موقف صعب جدا أن تحصل على دبلوم مهندس دولة في الميكانيكا وتُحرم من ولوج منصب التدريس بالجامعة في تخصصك، بسبب تقرير أمني يصنفك في خانة المعارضين وأعداء النظام. ماذا بقي لك من الحياة؟ الاشتغال في مهن لا تلبي طموحك أو مغادرة الوطن. وفي خضم ذلك، تظل ملاحَقا من الأمن. وفي الحقيقة، لست وحدك. بقية الأسرة تؤدي معك ثمن انتماء أبنائها إلى العمل الحركي والنقابي. هذه قصة محمود عبدالناصر (يؤديها الممثل المصري كريم عبدالعزيز)، المهندس الشاب، في مسلسل “الهروب”. يحاول المسلسل تقديم تفسير سياسي واجتماعي للظروف التي أفرزت الثورة المصرية ل25 يناير 2011، ضمن عوامل أخرى. بُث المسلسل قبل سنوات ولا علاقة له برمضان الحالي، ولا بسيل الأعمال القبيحة التي تكتسح الشاشات، كل ما في الأمر أن التكنولوجيا اليوم، باتت تتيح لك برمجة المشاهدة وفق تقديرك الخاص، قد تؤجل ما تشاء من أعمال لأعوام! وليس لشهور أو أيام فقط. وقد يحدث أن تختار بعض الأعمال لتعود إلى طور درامي من تاريخ العرب، من نافذة الدراما عينها! في مقام وسط بين الحوار والخطبة المطولة (Tirade)، يقول عبدالناصر، في أحد المشاهد القوية للمسلسل، موجها الكلام للمُخبِر، الذي كان يعذبه في قبو السجن بعدما لفّق له قضايا مزورة: “(تطلب مني أن أتعقل)، لماذا سأتعقل؟ هل أنصفتني بلدي منك ومن أمثالك؟ ممن يستطيعون تغيير مصير إنسان بجرة قلم؟ تتحكمون في مصائر الناس من مكاتبكم، هذا إرهابي لأنك تريده أن يكون كذلك، وهذا خطر على أمن الدولة لأن زملاءك يريدونه أن يكون كذلك، ترفعون من أردتم إلى أعلى وتخفضون من أردتم إلى الأسفل، ولا يهم ما يحصل للناس.. ليذهب الناس إلى الجحيم..”. يجري الحوار بين عبدالناصر والمخبر وسط آثار معبد فرعوني قديم. مرت اليوم ثمانب سنوات على تلك الثورة التي تلاها انقلاب شرس. الجميل في السينما المصرية أنها كانت شجاعة بما يكفي لتوثق هذا الحدث الفاصل من تاريخها في مسلسل من ثلاثين حلقة. السيناريو من تأليف السيناريست والكاتب المصري الموهوب بلال فضل. بعض أوجه النظام تصنف بلال فضل نفسه على أنه “إخوان”، ومن ثم، فأعماله وأفلامه أيضا “إخوان”. لماذا؟ لأنه ساند ثورة يناير وعادى الاستبداد، ومن يجمع بين هاتين “الفضيلتين” لا بد أن يكون “إخوان”. هي قاعدة عامة تعمل بها الدول البوليسية وتقتضي من الإنسان أن يعيش في حالة من الانمحاء التام. فحتى لا تخضع لتصنيف رجال الظل يجب أن تكون بلا رأي، كائن منمحي، شفاف، مثقوب، نافذة مفتوحة يدخل ويخرج منها الريح بلا حاجز. رغم أن المسلسل يقدم الفرصة لمختلف الأطياف التي صنعت تلك الثورة لتتحدث عن نفسها، ويفتح المجال لمختلف الآراء التي عادت، والتي ساندت، ولكل التيارات بتوازن دقيق، بل كأن المسلسل يستشرف “الثورة المضادة” حين ينتهي على وقع كلمات ثاقبة. ففي ذلك المشهد الذي يدور بمعبد فرعوني قديم، ويتحدث فيه الثائر والمخبر من مسافة غير قصيرة، تسمح لصدى الحوار الدرامي بالتردد في أرجاء المكان، يرد المخبرُ على صرخة عبدالناصر المطوّلة بنبرة ماكرة “أنا واحد من نظام عمره 7 آلاف سنة، تظن أنك ستهدم نظاما عمره 7 آلاف سنة؟؟”. لعلّ المخبر لم يخطئ.