منذ2011 شهد العالم العربي هزة سياسية اهتزت لها عروش أنظمة سلطوية عمرت لعقود. ورغم أن مخرجات هذا الحراك السياسي اختلفت بشكل جذري، مثل تونس التي عاشت انفتاحا سياسيا مقدرا، مرورا بالدول التي عرفت تغيرا في “الشكل وليس في المضمون” مثل الأردن والمغرب، انتهاء بالحروب الأهلية وتفكك الدولة مثل ليبيا وسوريا واليمن. وبغض النظر عن هذه النتائج، إلا أن الأسباب الجذرية التي دفعت الناس للخروج للشارع هي نفسها: أي غياب العدالة الاجتماعية والحريات والفرص الاقتصادية. ومن هنا، فإن العلاقة التي تربط بين الحكام والمحكومين في العالم العربي تعيش أزمة. فقد اعتمدت الأنظمة السلطوية في العالم العربي على فرض صيغة أو صفقة حكم استبدادي، تعتمد على تنازل المواطنين عن جزء من حرياتهم السياسية مقابل أن تمنحهم الدولة الاستقرار وبعض الامتيازات، مثل التعليم المجاني، الصحة، وربما وظيفة في القطاع الحكومي. تمتلك السلطويات النفطية امتيازا، فقد نجحت في شراء السلم الاجتماعي من خلال حزمة من الامتيازات الاقتصادية، أما الدول غير النفطية، فقد اعتمدت نسبيا على الريع، ولكن أيضا على شرعيتها التاريخية، الروابط القبلية، بالإضافة إلى القمع. كانت هذه وصفة الحكم لعقود، لكن هذه الوضعية لم تعد قادرة على الصمود. لماذا؟ هناك عاملان أساسيان. الأول يهم التغيرات الديموغرافية، لا سيما ارتفاع نسبة الشباب المتمدرس في المناطق الحضرية. إذ إن ثلثي سكان المنطقة المغاربية هم من “جيل الألفية”، أي الشباب الذين ولدوا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وعاشوا في بيئة سياسية وثقافية تتميز بولوج عالٍ إلى التكنولوجيات الحديثة وتقنيات التواصل الجديدة. كما عرفت السنوات الأخيرة مستويات عالية من تعميم التمدرس، يقابله عجز سوق الشغل على استيعاب هذه الافواج الكثيرة من الشباب، ولهذا يضطر العديد منهم، إما إلى البطالة أو الاشتغال في القطاعات غير المهيكلة. ثم ثانيا، بسبب فشل النموذج الاقتصادي المعتمد في العالم العربي في امتصاص الأفواج المقبلة لسوق الشغل. ومع النمو الديمغرافي، وانخفاض عائدات الدولة بسبب تراجع أسعار البترول أو بسبب فشل الإقلاع الاقتصادي، فإن الحكومات أصبحت غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية، وكان عليها أن تركز الإنفاق بشكل متزايد على المجموعات الاجتماعية ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل الأعيان والنخب السياسية القريبة من النظام، يقابله إقصاء لفئات واسعة من الشباب. وأمام هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة لجأت الدولة إلى إجراءات ضريبية على الأفراد والشركات للرفع من عائدات الدولة، يقابله تدهور مستمر في الخدمات المقدمة للمواطنين في الصحة والتعليم والإدارة، وهو ما عمق حالة انعدام الثقة في الدولة وقدرتها على تحسين وضعية الأوضاع الاقتصادية. بالمقابل من ذلك، لايزال المواطنون لا يتمتعون بصوت حقيقي في السياسة، الأمر الذي دفعهم في النهاية إلى النزول إلى الشوارع سنة 2011 مطالبين ب”الكرامة، والحرية، والعدالة الاجتماعية”. لقد كانت 2011 مجرد إشارة إلى أن العقد الاجتماعي التقليدي (المعتمد على الخنوع مقابل الاستقرار) أصبح يتأكل في ظل وضع اقتصادي صعب، وفشل الحكومات في الوفاء بالوعود بتحسين المعيشة. فعلى المدى القصير، قد تظهرعدد من الدول مستقرة، ولكنها مهددة على المدى الأطول بالانهيار، إذا لم يتم معالجة المشاكل الأساسية. تمثل كل من حالة الجزائر والسودان أقربنموذج على أن الربيع العربي لم ينته، أو بالأحرى، لم يبدأ بعد، لأن الربيع العربي يمثل روحا جديدة تسري في المنطقة وهي أن الشعوب هي الأصل وأن بقاء الأنظمة مرتبط بقدرتها على الاستماع إلى شعوبها والوفاء بالتزاماتها، وهذا ما لا يتم إلا من خلال صياغة تعاقد اجتماعي جديد.