لنتفق أولا، على أن الديمقراطية تقتضي بالدرجة الأولى وجود أحزاب سياسية قوية مستقلة، قادرة على تأطير المواطنين سياسيا، وأن عزوف الناس عن السياسة والاهتمام بالشأن العام، هو ورقة الفساد الرابحة. وبناء على ذلك، وجب الانتباه إلى أن بعض الممارسات والمواقف المروج لها مؤخرا تحمل في طياتها إشارات مهمة تترجم خلفياتها البعيدة عن احتمال الصدفة والاعتباط، خاصة تلك المتمثلة في خرجات بعض «المحللين السياسيين»، الذين خبروا حرفة تسفيه عمل الأحزاب وتبخيس أدوار المنتخبين، والتي يطالبون من خلالها بتسليم مفاتيح تدبير الشأن العام للتكنوقراط، الذي يعرف الجميع أن عديد المشاكل والاختلالات التي يعانيها المغرب اليوم، يقف وراءها بالضبط التدبير التكنوقراطي الخالي من روح السياسة والمفتقر للنفس الديمقراطي المؤطر بتعاقد تنتجه صناديق الاقتراع ويخضع لسلطة الرقابة الشعبية. بالموازاة مع هذه المطالب، نسجل أن بعض المسؤولين السياسيين المشهود لهم بالمساهمة في تحويل أحزابهم إلى ملحقات صغيرة، ارتضت لنفسها أن تنضاف إلى مجموعة التنظيمات الحزبية التي تتحرك ب»الريموت كنترول»، قد عادوا اليوم لفتح نقاش قديم جديد، حول مراجعة الدستور، خاصة الفصل 47 المتعلق بتشكيل الحكومة، الذي ينص على أن «يعيِّن الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها». صحيح أن الدعوة إلى تعديل الفصل 47 مطلب مقبول من الناحية الحقوقية، لكنه من الناحية الديمقراطية يشكل تراجعا خطيرا عن مكتسبات الشعب المغربي من دستور 2011، الذي خول للمغاربة حق تكوين حكومة يرأسها الحزب الذي يملك شرعية الاقتراع العام بحصوله على المرتبة الأولى. هذه الدعوات، سبق أن استنّها حزب «البام» مباشرة بعد تكليف الملك لعبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، بتكوين الحكومة بعد تصدر حزبه لانتخابات السابع من أكتوبر 2016، ولم تعد إلى الظهور إلا بعد بروز معطيات تقول إن حزب العدالة والتنمية رغم ما تعرض له من ضربات، لازال يعتبر أبرز المرشحين لتصدر نتائج انتخابات 2021 وترؤس الحكومة لولاية ثالثة. وبغض النظر عن نتائج الانتخابات المقبلة، وما إذا كانت ستبوئ «البيجيدي» صدارة المشهد أم لا، لأن ذلك أمر متروك لصناديق الاقتراع، نجد أن دعاة التعديل يعبرون من حيث يدرون أو لا يدرون، عن رفضهم أن تكون لأصوات المواطنين قيمة، خاصة حينما يقدمون مقترحات تعديلات تعطي إمكانية ترؤس الحكومة لأي حزب بغض النظر عن عدد مقاعده البرلمانية وترتيبه، وهو ما يشكل تبخيسا لإرادة المواطنين، وإصرارا على إفقاد الناس الثقة في قيمة العمل السياسي المحتكم في أصله إلى قواعد الديمقراطية. إن آفة التبخيس التي تهدد اختيار بلادنا الديمقراطي، ليست في مصلحة الوطن، بل تصب فقط في مصلحة النخبة المهيمنة على اقتصاد البلد، والمستفيدة من استقرار الوضع القائم على الريع والفساد السياسيين، وهو ما يستدعي وقف انحدار السياسة وتبخيسها، والعمل على استعادة الانتخابات لمصداقيتها وتمكين الأحزاب من الممارسة السياسية من خلال الامتناع عن التدخل في قراراتها الداخلية، لأن إضعاف الأحزاب السياسية سيضعف بكل تأكيد الجبهة الداخلية للبلاد، وهو ما يعني إضعاف مناعتنا أمام مختلف التحديات الداخلية والخارجية. كما أن حملات تيئيس المواطنين من جدوى المشاركة السياسية، التي تقودها بعض المنابر الإعلامية إلى جانب «محللين» سياسيين واقتصاديين معروفين بتبنيهم الدائم للخطاب الرسمي، قد أثرت بشكل سلبي على نفسية الناس الذين صاروا يعتقدون أنه لم يعد لخياراتهم ولإرادتهم معنى، وأن السياسات العمومية تتحكم في صناعتها أيادٍ لم ولن تفرزها صناديق الاقتراع، وهذا أمر ينذر بالخطر، لأن المواطن حينما يحس بأن رأيه أصبح دون جدوى وصوته صار غير مسموع، يشعر بالقلق والإحباط، ويصبح «قنبلة» موقوتة قد تنفجر في أي لحظة – مثل حبة فُشار- في وجه الوطن لا قدر الله.