قال المفكر عبد العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. هل يمكن اعتبار روايات الأديب عبد الله العروي امتدادا لأعماله الفكرية وأبحاثه في التاريخ؟ يثير التصور الوارد في السؤال، إشكالية تلقي المنجز الأدبي للروائي “عبد لله العروي”. ذلك أن ما يفهم من الامتداد، كون المعنى المنتج من حيث التأليف الفكري المرتهن- أساسا- للتحليل، يطابق أو يماثل الأدبي كحكي، وصف وتخييل، علما بأن في وضعية كهذه، يحق الاكتفاء بالفكري دون الأدبي أو العكس (حال محمد عابد الجابري الذي لم يكتب سوى سيرته). وهنا نتمثل بصدد إشكالية قراءة “العروي” ككل ثلاثة مستويات: أ_ مستوى قراءة الفكري، دون استحضار الأدبي. ب _ مستوى قراءة الأدبي دون تمثل الفكري. ج _ مستوى الجمع بين التوجهين. فالمستوى الأول يتحقق التركيز فيه على التآليف الفكرية، وبالتحديد الكتاب الكلاسيكي والعمدة “الإيديولوجية العربية المعاصرة”، ثم لاحقا “العرب والفكر التاريخي” وما تلا مجسدا في السلسلة المفاهيمية، إلى كتاب “السنة والإصلاح” (ينبه الأستاذ “العروي” أنه “سنة وإصلاح”) وهناك كتاب لا يذكره “العروي” كثيرا “أزمة المثقفين العرب”: تقليدية أم تاريخانية ؟”. وأما في المستوى الثاني، فيتم إيلاء الاهتمام للمتن الروائي، وهنا نبدي ملاحظة مؤداها كون الدراسات والأبحاث النقدية انحصرت في قصة “الغربة” ورواية “اليتيم”، ثم “أوراق” في سياق إقرارها بالتعليم الثانوي، بينما لم تحظ “الفريق”، “غيلة ” و”الآفة” بالاهتمام ذاته. على أن الجمع بين التوجهين لم يتحقق وفق الموضوعية النقدية المقصودة للتباعد الحاصل بخصوص المنجزين: منجز الوصف ومنجز التحليل. بيد أن إحدى سقطات المستويات السابقة، تتجسد في الأحكام المستصدرة عن المنجزين بعيدا عن مراعاة تصورات المؤلف. فالأستاذ “العروي” اشتغل/انشغل بمشاريع كلما انتهى من أحدها أشار إلى ذلك. وفي الإشارة، الدعوة المفتوحة إلى القراءة الجامعة الشمولية، إذ الأحكام المطلقة والقطعية عن مؤلف بذاته سواء أكان وصفيا أو تحليليا فكريا، تجد إجاباتها ضمن ما صدر في اللاحق. وهنا يستحضر السؤال: ألم يكن كل تأليف في الوصف أو التحليل يمتلك استقلاليته وتفرده؟ الواقع أنه إذا كان الأمر كذلك، فإن الانتقادات والأحكام يحسن أن تمتلك حدا معقولا من النسبية، وإلا فما قولنا في التوجيه الذي رسمه الأستاذ “العروي” لمحاوريه، والمتضمن في كتاب “هكذا تكلم عبد لله العروي” (منتدى المعارف/ بيروت/2015)، وهو الكتاب الذي أصدرته مجلة “النهضة” التي يديرها بكفاءة واقتدار الأستاذ “نورالدين العوفي”. يرد في التوجيه: ” ينقسم كتاب “الإيديولوجية العربية المعاصرة” إلى أربعة فصول: _ العرب والأصالة. _ العرب والاستمرار التاريخي. _ العرب والعقل الكوني. _ العرب والتعبير عن الذات. يمكن تجزئة أعماله إلى أربعة محاور كل محور مرتبط بأحد هذه الفصول: الإيديولوجيا، البحث التاريخي، التأصيل، التعبير.” (ص/16) فما الذي يفهم من التوجيه؟ ما يفهم أن ثمة قراءات أخطأت المعنى. وبالتالي فالتحديد بما هو توجيه، رسم للمنهجية التي يجدر الصدور عنها حال الإقدام على القراءة والحوار. بيد أن ما يتفرد بنه منجز الأستاذ “العروي” وصفا وتحليلا، خاصة “الديمومة الزمنية”. والقصد أن الصيغة التي تشكل وفقها بناء المنجز في شموليته، تبين عن كون أية قراءة وفي أي زمن، لا يمكن اعتبارها نهائية، مادام تجديد فعل القراءة استكشاف لقضايا لم يتحقق بحثها ودراستها. وأرى مادمت أهتم بالوصف، بأن الأدبي ك(حدس وتخييل، كما يرى “العروي”) يثير في متلقيه أكثر من سؤال، من قضية ومن موضوع. حدود الفكري والمتخيل إلى أي حد استطاعت رواياته الأربع أن تعبر عما سكت عنه في الأعمال النظرية والفكرية والبحث التاريخي؟ بمعنى آخر، كيف يمكن رسم الحدود بين الفكري والمتخيل في أعمال العروي؟ _ يستلزم رسم الحدود إذا توافرت إعطاء صورة عن الوصف في امتداداته. فالأستاذ “عبد لله العروي” أديبا وروائيا خاض الممارسة الأدبية الإبداعية على مستوى أكثر من جنس أدبي: المسرحية (رجل الذكرى)، القصة (الغربة)، الرواية (اليتيم، الفريق، غيلة والآفة)، السيرة (أوراق)، المذكرات (مغرب الحسن الثاني)، اليوميات (خواطر الصباح) والاعترافات (استبانة). إذ أن ما لم يبدع فيه الشعر، ولئن كانت مقاطع من نثره المحكي تفيض شعرا وشاعرية. بيد أن ما يلاحظ عن الصورة: أ _ التكامل والتداخل: فالأستاذ “العروي” كي يصل خيوط منجزه الأدبي، ركز على مكون “الزمن”. فالرباعية تجسيد للماضي، و”غيلة” بمثابة الحاضر متمثلا في واقع الأسرة، حيث وظف الشكل البوليسي للكتابة. وأما المستقبل، فتعكسه “الآفة” من منطلق كونها رواية الذاكرة، وروهن فيها على الخيال العلمي. (وهنا أؤكد بأن هذا النص وبالاستناد لعوالمه، شخوصه وفضاءاته صيغ بمواصفات وتفكير عالمي). والواقع أن أي قراءة للوصف يتحتم تأسيسها انطلاقا من مكون الزمن.