إن تشكيل تصور عن بلاغة التشويق، تأسيسا من الرواية البوليسية، يقتضي توافر كم نصي يؤهل التلقي للقراءة أولا، والتأويل ثانيا، والمقارنة ثالثا. إذ وبانتفاء التحقق المتمثل في التراكم، عربيا ومغربيا،يصعب إرساء قواعد للتقييم النصي المنجز. على أن الثابت والمتداول، ارتباط نهضة القول الروائي بالتمدن تحديثا، والتحضر حداثة، وما يستتبع من رهانات الفعل الإبداعي المساير للتحولات السياسية، الاجتماعية والثقافية الفكرية. هذا التصور في جوهره وعمقه، يرتبط بالكتابة الروائية السردية عموما،وفي هذا الأفق تقتضي اللحظة تمعين النظر في منجز الرواية البوليسية على ندرته.إذ ومهما بلغت التحولات من درجات الاستهلاك على تباين واختلاف إيقاعاته ونوعياته، فإن هوامش اجتماعية تظل مركونة في الظل، حيث تدفع الحاجة إلى اقتراف ما يعد خارج ضوابط القاعدة القانونية.من ثم، ولد التمدن والتحضر، وفي تنوع سياقاته نشأت الجريمة على تعدد مظاهرها وأشكالها.إذ، وكما يقال: المجتمعات بشرورها. وكان لابد من تخليق إبداع يوازي على طفولته هذه التحولات، علما بأن كتابة الرواية البوليسية، ورهانها على بلاغة التشويق في متابعة التحريات والتحقيقات التي دعت لارتكاب الجريمة. وكما ارتبطت بما دعوته الظل، فإنها طالت الضوء أيضا، لعوامل حتمها الظرف الاجتماعي. إن السياقات السابقة، وعلما بالندرة المتمثلة في المنجز المتحقق، تستدعي التساؤل عما إذا كانت الرواية البوليسية تمثل جنسا أدبيا قائم الذات. هذا التساؤل اقتضته ثوابت الكتابة والتأليف الروائي المفتوح على التجريب، والتعدد. فالرواية البوليسية وبرغم خصوصيتها على مستوى إنتاج المعنى: الجريمة، الضحية، القاتل، التحري والتحقيق، تسهم في توظيف مكونات الكتابة الروائية التجريبية والعادية. ومن ثم،أعتقد بأن خصوصيتها تكمن في ارتباطها بالمعنى المنتج. فالقلة القليلة ممن أسهمت في كتابة هذا النوع، آثرت تحديد منجزها في"رواية" وليس "رواية بوليسية"، وكأن ثمة شبه خوف من عملية الإسهام والكتابة في هذا الحقل الإبداعي بالذات. ولعل ما يمكن أن يستوقف، كون بعض الروائيين العرب كتبوا الرواية البوليسية بمواصفاتها وخاصاتها، بعيد عن أن يؤثر عنهم هذا التوجه. وأعتقد بأن الروائي الفلسطيني"غسان كنفاني" ومن خلال روايته "الشيء الآخر"، أو "من قتل ليلى الحايك؟"، قدم نموذجا لهذه الكتابة. لم يتم الاحتفاء به لارتباط الاسم العلم بقضية العرب الأولى"فلسطين".من ثم، تداول التلقي النقدي العربي، الحديث عن روايتيه "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا"، دون بقية الأعمال الروائية المتميزة بجماليتها وشعريتها الرفيعة. وإذا كان غسان بهذه الرواية، انخرط في كتابة الرواية البوليسية، فإن الدكتور "عبد الله العروي" ومن خلال روايته "غيلة"، وظف شكل الكتابة البوليسية. وكأني به جرب/يجرب، كل أشكال الكتابة السردية، من الكتابة عن الذات بالانبناء على قواعد السيرة الذاتية، إلى توظيف الشكل البوليسي والخيال العلمي في الرواية الأخيرة من مشروعه"الآفة". وهنا نلاحظ بأن وضعية كتابة رواية بوليسية عربيا، لا تتباين وكتابة رواية في الخيال العلمي. بيد أن ما يثير إلى إشكالية التجنيس، وعبر تاريخية الرواية البوليسية عالميا، كون الذين برزوا في هذا النوع من الكتابة إما أنهم كانوا موظفين في جهاز الشرطة، إذ ومن خلال حكيهم لملابسات وقوع الجريمة، يظهرون كفاءة وتمكنا في/ وعلى "منطقة"الحدث، وبالتالي قراءة نفسية المجرمين، وإثارة الشك في البعض دون الآخر، برغم الوقوع في الأخطاء. ويمكن أن يكونوا قريبين جدا من الدائرة حيث عن طريقها يجسدون كفاءتهم. إنهم بمثابة وسائط في الكتابة وعلى التأليف. لكن: أية قيمة للرواية البوليسية إن لم تجد طريقها للشاشة، أو للسينما ككل؟ إن العديد من التجارب الناجحة في الكتابة الرواية البوليسية، استأثرت باهتمام المخرجين فأقدموا على تحويلها إلى حقل الصورة بما له من بلاغة التأثير وقوته،بل إن عملية التحويل أعادت التلقي لقراءة النصوص بهدف المقارنة، وتأملوا ما كتبه الروائي والباحث الإيطالي "أمبرتو إيكو" في هوامشه حول روايته الأولى "اسم الوردة". إن تجارب الدول الاسكندنافية اليوم، تعد من أقوى تجارب الكتابة في الرواية البوليسية. ويكفي التمثيل ب"هنين مانكل" و "أندريار أندرسن"، ولئن كان المطلوب ترجمتها للأدب العربي، لتواكب ما ترجم ل"أكاثا كريستي" مثلا.. تبقى تجارب كل من الروائيين: الميلودي الحمدوشي، وعبد الإله الحمدوشي، و الأزهر ومدران وغيرهم، تأسيس فعلي لهذا النوع من الكتابة، وأرى بأن هذه الجلسة أفق مفتوح على المزيد من العطاء والكتابة على السواء. صدوق نورالدين