شهدت قاعة محمد المنوني، التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، زوال يوم الاثنين 25 يوليوز 2016، أطوار مناقشة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه تقدمت بها الطالبة الباحثة خديجة البوعزاوي في موضوع "فضاء طنجة بين المتخيل والواقع في الرواية المغربية". وقد اعتمدت الباحثة، في مقاربتها لمفهوم الفضاء على نصوص سردية روائية وهي: " الضوء الهارب " لمحمد برادة، " الشطار " لمحمد شكري، " فراق في طنجة " لعبد الحي المودن، ثم " جيرترود " لحسن نجمي. وبعد نقاش امتد لثلاث ساعات، قررت لجنة المناقشة العلمية المتكونة من السادة الأساتذة: حسن بحراوي ( رئيسا )، محمد الظريف وعبد السلام الطاهري ( مقررين )، قاسم الحسيني وسعيدة إدريسي التفراوتي ( عضوين )، منح الطالبة خديجة البوعزاوي شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا. وفي ما يلي نص التقرير الذي تقدمت به المترشحة في الموضوع. أتشرف اليوم بأن أعرض أمامكم الخطوط العريضة لأطروحتنا لنيل شهادة الدكتوراه، والتي خصصناها لموضوع « فضاء طنجة بين المتخيل والواقع في الرواية المغربية «. وكما جرت العادة في مثل هذه المناسبات العلمية، سأحاول تسليط الضوء على أهم المراحل التي قطعتها في سبيل إنجاز هذا العمل. وكما هو مثبتٌ في العنوان، فقد اتخذت من مفهوم الفضاء مفهوما مركزيا لبناء إشكالية وأسئلة موضوعي، وذلك بالنظر إلى الأهمية التي حازها ويحوزها في بناء الخطاب السردي الروائي الحديث، ليس باعتباره يحيل على المكان، في بعده الفيزيائي الجغرافي، وإنما في طموحه لأن يصبح ذا بعد رمزي تخييلي، يؤسس لمعانٍ وتداعيات أكثر اتساعا ودلالة ودينامية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الإغراء الذي مارسه علي هذا المفهوم يرجع إلى مرحلة إعدادي لبحث التخرج لنيل شهادة الماستر في الأدب العام والنقد المقارن، لمّا اقتُرح علي مقاربةَ تجلياته، نقديا، في عمل ينتمي إلى الأدب العِبري، من خلال رواية « الطريق إلى عين حارود « لصاحبها عاموس كينان. والأكيد أنني استفدت من هذه التجربة، خاصة في اختيار مشروع هذه الأطروحة، إذ تولدت لدي رغبةٌ في إعطاء امتداد لما قمت بإنجازه في بحث الماستر، ولكن بصيغة أكثرَ عمقا، مع ما يقتديه ذلك من تنويعٍ للنصوصِ التي قررت الاشتغال عليها. كما كان رهاني منصبا، عطفا على ذلك، على تمتين وإغناء معرفتي النظرية بكل ما له صلة، ليس فقط بمفهوم « الفضاء « وفعّاليتِه في الدرسِ النقدي الحديثِ والمعاصر، وإنّما أيْضًا بكل ما يتّصلُ به منْ نظريّاتٍ نقديّةٍ حديثةٍ ومفاهيمَ إجرائيّة، والتي لا يمكن لأيِّ باحثٍ متحمّس في أوّل الطريق أن يَحيد عنها، أو يتغاضى عن أهميتِها. ومما لا شك فيه، أن مقاربةَ هذا المفهومَ قد عرفت تطورا ملحوظا في مدونة النقد الغربي الحديث، مما أضفى عليه دينامية واضحة؛ إنْ في توليد المعاني أو توسيعِ هامشِ التلقي وابتكارِ الدلالات وفتح إمكانات التأويل. إلا أنّ اطلاعي على عدد من الدراسات النقدية العربية المعاصرة، قاد خطواتي إلى الوقوف على ما بدا لي خلطا بين مفهوميْ « المكان» و»الفضاء»، إنْ على المستوى النظريّ، أو في معالجةِ النصوصِ السردية نقديًّا، والحال أن الفرق بينهما شاسعٌ وبَيّن. ومن أجل استجلاء بعض مظاهر هذا الخلطِ المنهجي، خاصة في مدونة النقد العربي الحديث، انطلقْتُ من إشكاليةٍ مركزيةٍ تأسس عليها طموحُ بحثي، والتي حددتها في السؤال التالي: كيف يمكن لمفهوم « الفضاء « أن يتحول من مجرّدِ دالّ عن المكان كجغرافيا، إلى مفهوم أكثر انزياحا وشساعة وديناميّة، بحيث يطول الذاكرةَ والجوانبَ الحسية والمتخيلَ على حد سواء؟ للإجابة على هذه الإشكالية، حاولت تجريب ما توصلتْ إليه بعضُ الاجتهاداتِ النقديةِ الحديثةِ والمعاصرة على أربعةِ نصوصٍ سرديةٍ مغربية، راهن أصحابها، في بناء عوالمهم السردية، على إعطاء امتدادات مجتهدةٍ وطموحةٍ لمفهوم « المكان «، إلى أن حاز أبعادا تخييلية ورمزية، مما جعل ديناميته تؤشر على مستوى آخرَ أعم، أعمقَ وأشملَ، أي الفضاء. ويتعلق الأمر ب: « الضوء الهارب « لمحمد برادة ، و» الشطار « لمحمد شكري، و» فراق في طنجة « لعبد الحي المودن ثم « جيرترود « لحسن نجمي ( الذي يشرفني بحضوره الكريم أطوار هذه المناقشة )، وهي أعمال تمثل أجيالا مختلفة، كما أن أحداثها وبناءَ محكيها الروائي التخييلي قام باستثمار فضاء طنجة – كليا أو جزئيا - بإغرائها الجغرافي والأسطوري والتاريخي والثقافي. تحقيقا لهذه الغاية، كان لزاما علي اعتماد منهج مناسب يسعفني في الاقتراب أكثرَ من هذا الأفق. وقد استقرّ اختياري على المنهج التأويلي، لما يتيحه من إمكانات قرائية في بناء فهم جديد للنصوص من خارج مظانها، أي عبر ربطها بمختلف العوامل الثقافية والتاريخية والاجتماعية... التي ساهمت في إنتاجها. وهو إلى ذلك، منهج يضع الدارس - القارئ في مركز مشروعه التأويلي، على اعتبار أنه لم يعد مستهلكا لمعنى النص وقصدية المؤلف، وإنما تحول إلى عنصر فاعل في عملية بناء المعنى. من هنا، فإن هذا التفاعل، الذي يمنحه المنهج التأويلي، يجعل من فعل القراءة عملية فاعلة ومنتجة، كما أنه يساعد على ضمان التواصل المطلوب بين المؤلف والمؤول. وبهذا المعنى يصبح النص الأدبي، موضوع الدراسة، قابلا للتحيين والتطبيق، ومفتوحا على معان جديد، بحسب الوضعية التاريخية للمؤول وبالنظر كذلك إلى أحكامه المسبقة. بعد هذه الخطوة المنهجية الإجرائية، بدا لي تقسيمُ هذا البحث إلى ثلاثة فصول أساسية، يتضمن كل واحدٍ منها عددا من المباحثِ الفرعية، ذيلتها بمجموعة من الخلاصات الفرعية الأولية، التي حاولت فيها إبراز أهمّ الأفكار التي توصلت إليها في سياق البحث والتحليل والتركيب. وهكذا، قمت في الفصل الأول النظري وعنوانه « مفهوم الفضاء: عرض وتدقيق «، بمقاربة معنى « الفضاء « وبنائه، نظريا وإجرائيا، في النقد الحديث، بما يقتضيه ذلك من إحاطة تطمح إلى توضيح الفرق بين المكان والفضاء، وعلاقةُ هذا الأخيرِ بإشكاليةِ الوعي بالفضاءِ الروائي والجنسِ الأدبي ومفهومِ الزّمن... وغيرِها من القضايا، التي تناولها النقدُ الحديثُ بغير قليل من الإسهابِ والتدقيق. هذه الخطوة حتمت علي، في مباحثِ هذا الفصل الخمسة، الوقوفَ عند بعضِ أبرزِ ما كُتب في هذا المجال. حيث عمِلت في المبحث الأول الذي يحمل عنوان: « الفضاء – المكان: تحديدات أولية «، على توضيح الفروقات الحاصلة بين مفهومي المكان والفضاء، مما أخْلُص إلى كون المكان لا يُشَكل سوى جزءٍ من كلٍّ، وهو الفضاء، الذي يعتبر مكتسِحا ومطلقا وشاملا في الوقت ذاته. أما المبحث الثاني، الذي عنونته ب « الوعي بالفضاء والجنس الأدبي «، فقد انطلقت فيه من الإرهاصات والمقوّمات التاريخية الأولى، التي ساهمت في ظهور الرّواية داخل البيئة الأوربية، التي أنتجت هذا الجنس الأدبي الجديد، الذي أبانَ، ليس فقط عن قابليّةٍ مَرِنَةٍ ساعدت على تَمَثل مشاعرِ وتقلّباتِ حياةِ إنسانِ المُدن الجديدة، وإنما أيضا عن تحول علاقة هذا الإنسانِ بالزمنِ وبالفضاء، وهو ما انبرتِ الروايةُ إلى تصويره بفنيةٍ عاليةٍ وغير مسبوقة، بما يكشف عن ذلك الإحساسِ بالصراع والتوتر، الذي بدأ يكبر بين الفرد والفضاء الذي يحتضنه. وقد عملت، في المبحث الثالث وعنوانُه: « الخطابُ الروائي ومفهومَا الفضاءِ والزمن «، على استجلاء خلفياتِ الفكرة القائلة بكون الأبحاثِ والدراساتِ النقدية المتعلقة بدراسة الفضاءِ الروائي لا تعدو أن تكون أبحاثا وليدةَ الأزمنةِ الحديثة، والمقصودُ بذلك دراسةُ الفضاء في الأدب عموما، وفي حقل السرديات على وجه الخصوص. ومن مظاهر ذلك، تأخر الدراساتِ الشعريةِ والسيميائية في النقد الحديث في تخصيص مقاربةٍ وافيةٍ ومستقلةٍ للفضاءِ الروائي، باعتباره ملفوظا حكائيا قائمَ الذات، وعنصرًا من بين العناصر المكونةِ للنص. حيث يظهر أن السبب في هذا « الإهمالِ « النظري الإجرائي، الذي لَحِقَ أحدَ مكوّنات البنية السردية راجعٌ - بالدرجة الأولى - إلى انتصارِ العناصرِ الحكائيةِ الأخرى على حسابِ مفهومِ الفضاءِ وديناميتِهِ. وقد بينت أن هذا الأمر سيعرف تحوّلا كبيرا مع ظهور الرواية الجديدة، التي انتقل معها الفضاءُ من مجردِ ديكور أو وسيط يؤطر الأحداث في الروايةِ الكلاسيكية، إلى محاورٍ حقيقي، يقتحم عالمَ السردَ، محرراً نفسَه من أغلالِ الوصفِ التقليدي، عبر إسقاط الكاتب للحالةِ الفكريةِ والنفسيةِ للشخصيات على المحيطِ الذي تعيش فيه. بمعنى أن الكاتبَ لم يعد في حاجةٍ ماسةٍ إلى الوصف ليقدم الفضاءَ للقارئِ، بقدر ما أصبح القارئُ هو من يحدد طبيعةَ الفضاءِ في الرواية، سواءٌ من خلال حالةِ الشخصياتِ النفسية أو من خلال سلوكاتِها المختلفة. أما أهميةُ الزمنِ وارتباطُه بتقنية الوصفِ، كما ورد عند النّاقِدِ الفرنسيّ جيرار جونيت، فإنها قد تجعل من المكان عنصرا مكملا للزمن الروائي، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميته في شيء، خاصة إذا ما توطدتِ العلاقةُ بينهما إلى الحد الذي تستحيل معه دراسةُ المكانِ بمعزلٍ عن تضمينِ الزمن، كما تستحيل دراسةُ الزمن في أي عملٍ سرديّ دون أن ينشأ عن ذلك مفهوم المكان في أي مظهر من مظاهره، وهو ما يُطلِقُ عليه ميخائيل باختين اسم «الكرونوطوب». بعد هذه التدقيقات الأولية، انتقلتُ في المبحث الرابع وعنوانه: « الفضاءُ الروائي في الدراساتِ النقديةِ الحديثة»، إلى الوقوف عند بعض التعريفات التي أُعطيت لهذا المفهوم في الغرب أو لدى الباحثينَ العرب. ومِنْ ثَمَّ توقفتُ، على سبيل المثال لا الحصر، عند تصوُّر غاستون باشلار، الذي يعتبره مجموعَ قيمٍ متخيلةٍ يختزنها العقلُ الباطنُ ثم تصبح هي القيم المسيطرة، ثم هنري متران، الذي قام بدراسةِ القيمِ الرمزيةِ المقترنةِ بالمجالاتِ التي تُتاح لنَظَرِ السارد أو نظرِ شخوصِه، والتي تُمثل توجهاتٍ تَشِفُّ عن متخيلِ الكاتب والقارئ معا. في حين يذهب جون إيف طادْيي إلى اعتبار الفضاءِ الروائي يتوزع بين ثلاثةِ تصوراتٍ، وهي الفضاءُ المادي المحسوس، والفضاء النصي، ثم الفضاءُ باعتباره مكانا للصور، والذي يتحدد ضمن نصٍ ما باعتباره مجموعَ العلاماتِ المنتجةِ للفضاءِ داخل النص. أما جان فِيسْ جَرْبَرْ، فيرى أن الفضاءَ الروائي ليس سوى «مجموعةٍ من العلائق القائمة بين الأمكنةِ، والوسطِ، وديكورِ الفعلِ والشخصيات...»، بينما يتحول في نظر شارل كْريفَلْ إلى آليةٍ سرديةٍ تُعطي الانطباعَ بأن النص حقيقيٌّ، من خلال تأكيده على أنَّ ما يُحكى داخلَه إنما هو محضُ تشخيصٍ. ومن جهته، اعتبر جان بْيِيرْ كُولْدَنْ سْتِينْ أن الفضاءَ يضطلع بدور كامل في إطار تنامي التخيل، مما يكسبه قيمة ووظيفة رمزيتين لابد للقارئ أن يقوم ببعضِ الجُهدِ لاستخلاص قدراتهما الرمزيةِ داخل المحكي. من جهته، اعتبر جوزيف كِيسْنَرْ الفضاءَ المكاني في الرواية عنصرا متحكما في الوظيفة الحكائيةِ والرمزيةِ للسرد، وذلك بفضل بنيته الخاصة. بل قد يكون، في بعضِ الأحيان، هو الهدفُ من وجودِ العملِ الأدبي كلِّه. وفي ارتباطٍ بالمنجز النقدي العربي الحديث والمعاصر، انطلقتُ من سؤال حول المجهوداتِ التي بَذَلها النقادُ العربُ لمقاربةِ قضايا الفضاءِ الروائي داخل الأدب، كمفهومٍ وكأداةٍ إجرائيةٍ، يتم من خلالها مقاربةُ الأعمالِ الروائية. وفي هذا السياق، وقفتُ عند ما ذهب إليه غالب هَلَسَا، مثلا، الذي ميز بين ثلاثةِ أنواعٍ للمكان، بحسب علاقتها بالعملِ الروائي واستثمارِها داخل أحداثه، وهي: المكان المجازي، – المكان الهندسي، - المكان بوصفه تجربة. في حين يضع الناقد العراقي ياسين النصير الفضاء الروائي معادلا للمكان، الذي يثير إحساسا بالمواطنةِ وبالزمنِ وبالمحلية. أما الباحثة المصرية سيزا قاسم، فقد جاء فهمها للفضاء باعتباره مكانا خياليا له مقوماتُه وأبعادُه المميزة. حيث تقوم بربط مفهوم الفضاء الروائي بالوصف، ليمثل، في نهاية الأمر، الخلفيةَ التي تقع فيها أحداثُ الرواية. ومن جهته، خصص الباحث المغربي حسن بحراوي دراسةً كاملة لبعض قضايا الشكل في الخطاب الروائي المغربي، لمعالجة ثلاثةِ عناصرَ من أهم عناصرِه البنائية، وهي: المكان والزمان والشخصية. حيث جعل من الفضاءَ الروائيَ عنصراً فاعلاً في الرواية، باعتباره الإطارَ الذي تقع فيه الأحداث، كما أنه يعتبر العمودَ الفقريَ الذي يربط أجزاءَ الروايةِ بعضِها ببعضٍ عن طريق علائقه بالشخصيات والأزمنةِ وزوايا النظر. ومن جانبه، يميز الباحث السوري سمر روحي الفيصل بين المكان الطبيعي والمكان الروائي. وقد لاحظ أنّ تحليل المكان في الرواية يقود إلى تحديدِ طبيعةِ الفضاءِ الروائي فيها، باعتباره أكثرَ شمولا واتساعا من المكان، فهو أمكنةُ الروايةِ كلُّها، إضافة إلى علاقاتها بالأحداث ومنظورات الشخصيات. في حين يذهب الشاعر والروائي المغربي حسن نجمي، في كتابه « شعريةُ الفضاء: المتخيلُ والهويةُ في الروايةِ العربية « إلى اعتبار الفضاءِ الروائي مثلُه مثل كلِّ فضاء فني، ينبني – بالأساس- على تجربةٍ جماليّةٍ، بما يعنيه ذلك من بُعد أو انزياحٍ عن مجموعِ المعطيات الحسيةٍ المباشرة؛ أيْ أنّ مجالَه هو حقلُ الذاكرةِ والمتخيل. وقد بدا لي أنّ هذه الفكرة تنمّ عن تصور إبداعي خلاق للفضاء داخل العمل الفني. حيث لا يغدو المكان مجردَ تأطيرٍ للمادة الحكائيةِ، بل يصبح ذا قيمةٍ جماليةٍ وشعرية. بعد ذلك، انتقلتُ في المبحث الخامس وقد عنونته ب: « الفضاءُ متخيلا وواقعا في مدونة الكتابة الروائية «، لأؤكد على أنّ ثمّة كُتّابًا ينطلقون من فضاءاتٍ واقعيةٍ، وآخرين يَخْلُقون فضاءاتٍ من نسج الخيال، لا توجد إلا في مُتُونِ مؤلفاتِهم. وعلى هذا الأساس، يتحول القارئ من متلقٍ مستهلكٍ إلى مشاركٍ متواطئٍ يُعمِل فكرَه وخيالَه لرسم معالمِ هذا الفضاءِ الجديد. هذا الإمعانُ في استثارةِ جموحِ الخيالِ تَنْتُج عنه أفضيةٌ روائيةٌ غرائبية، تُغْني النص وتساهم في تحقيق نوعٍ من المتعةِ المضاعَفَة لطموحه الإبداعي. وفي هذا السياق، لا يكتفي المتخيل بإعادةِ صياغةِ الأشياءِ أو ترتيبِ الصورِ والحكايات، لأنه بِقدر ما يُوَرطُ الذاتَ الفرديةَ في عمليةِ إنتاجِ كلِ ذلك، بقدر ما يتجاوزُها ليُحقق ما يُسميه بول ريكور ب « المتخيلِ الاجتماعي «. من هنا تدخل لعبة التحررِ والدمجِ أو الاختلافِ والتطابقِ، سواءٌ أكان ذلك على صعيدِ الثقافةِ الوطنيةِ أو على مستوى الأدبِ الكوني. بعد هذا الفصل الأول النظري بمباحثه الخمسة، انتقلتُ، في الفصلين الثاني والثالث، ويتضمنان الشق التطبيقي من هذا البحث، إلى محاولة تتبُّعِ تمظهرات الفضاء، فضاء طنجة، بما يؤشر على انتقاله من مستواه الواقعي إلى أبعاده المتخيَلة، إن في تَمَثلِهِ الجمعي أو الفردي على حد سواء. وقبل ذلك، قمتُ في المبحث الأول من الفصل الثاني بتقديم جرد مختصر عن تاريخ مدينة طنجة، من خلال رصد تجليه الأسطوري والتاريخي، قبل أن أنتقل في المبحث الثاني إلى تتبُّع حضورِ فضاءِ طنجة في الروايات النماذج، بما يحيل عليه من ذكرياتٍ جمعيةٍ مفتقدةْ، وباعتباره، فضلا عن ذلك، فضاء للاختزال التاريخي المشترك. فيما تناول المبحث الثالث هذا الفضاء كمؤشر على ضمانِ التوازنِ الروحي والبحثِ عن الذات بالنسبة لكل الهاربين من جحيمِ أفضيةٍ أخرى خارجيةٍ طاردةْ. في حين ارتأيت، في الفصل الثالث، الوقوف، ضمن ثلاثة من مباحثه الأربعة، عند مفهومِ الفضاءِ وديناميتِه في خلق تحولاتٍ جذريةٍ على مصائر الشخصيات الرئيسةِ الفرديةِ في الروايات المعتمدةْ، من خلال تأثيرِه في توليدِ المشاعرِ والحالاتِ النفسيةِ والوجدانيةِ الخاصةْ، وهي مشاعرُ وحالاتٌ تتوزع - على التوالي - بين الاحتواءِ والإبداعِ والخيبةِ واللعنةْ، هذا إلى جانب حضورِ فضاءاتٍ أجنبيةٍ أخرى، إنْ كعنصرٍ مُكَملٍ وداعمٍ لخصوصيةٍ الفضاء الطنجي في الحكي، أو مفارقٍ له. في حين خصصتُ المبحث الرابع والأخير لإبراز مستوياتِ التشابهِ والاختلافِ الدلاليةِ في التعامل مع الفضاءِ في الأعمالِ الروائيةِ الأربعةْ، وِفْقَ تمثل كلِّ كاتب على حِدَهْ لهذا المفهوم في بناء خطابِه السردي التخييلي. وفي نهاية البحث، قمت، في الخُلاصةِ العامةْ، برصْدِ أهم الأفكارِ التي اعتبرنتها جديرة بمزيدٍ من التفكيرِ والتأملِ، وأذكُرُ من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، الملاحظاتِ الأربعِ التالية: إنّ الفضاء يتعدّى بكثير مجرّد الإشارةِ إلى مكانٍ من الأمكنةْ، وبالتالي يخلق نظاما داخل النص. وقد يتسع هذا المفهومُ ليشمل المكانَ الواحدَ أو عدةَ أمكنةٍ أخرى. عدمُ تجاوزِ بعضُ الدراساتِ العربيةِ - على جديتها وتنوعِها - اعتبارَ الفضاءِ مرادفاً للمكانْ، حيث ظل المكانُ يحيل على نوعٍ من الديكورْ، مما أضفى بعضا من المحدوديةِ والسطحيةِ على هذا المكونِ الحكائي. إنَّ توظيفَ وتمثلَ آليةَ الفضاءْ، مع الروايةِ الجديدةْ، أصبح خاضعا لتطور رؤيةِ الكاتبِ الجماليةِ والمعرفيةِ للواقعْ، نتيجةَ تَغَيرِ طُرقِ بنائِه في النص الروائي، كما تَمتْ إعادةُ تشْكيلهِ وخَلْقِه وإبداعِه بطريقةٍ تضفي خصوصية على الرواية. إنَّ توظيف فضاءاتِ طنجةَ في الروايةِ المغربيةْ خضع لتصوراتٍ ولغاياتٍ سردية وجمالية وتقنية متباينة ومختلفة، حيث أصبحنا أمام « فضاءات طنجية « متعددة وليس فضاء واحدا وحسب، مما يتجاوز المعنى الضيقَ لمفهوم المكان التقليدي. لقد حاولت، في هذا التقرير التركيبي المختزل، بسطَ الخطوط العريضة التي قادت طموحي في مَظَانِّ هذا العمل. ولا يفوتني، في هذا السياق، التذكير بأن لكل بحث جامعي أكاديمي صعوباتُه، كما أن له حدودُه ومآزقُه. وفي حالتي، لا أدعي أنني وجدت طريق البحث في دينامية مفهوم الفضاء وإبدالاتِه معبدة أو سهلة، وإنما صادفت غير قليل من الصعوبات وأنا أقوم بتجميع مادتِه الأوليةِ قبل تسخيرها في مقاربة النصوصِ الأربعةِ المقترحةْ. على أن هذه الصعوبات يبقى لها - على الرغم من ذلك - إغراؤُها وجاذبيتُها، متى اتضحت بعضُ الرؤيةِ، وتيسرتِ السبل إلى سبر منغلقات البحث. (...)