نجحت الإعلامية، فاطمة الإفريقي، وصديقها الموسيقي، رشيد برومي، في إخراج بيان تاريخي، من حيث مواقفه ونوعية الأسماء الموقعة عليه. البيان، وقبل أن يطالب بالإفراج عن معتقلي حراكي الريف وجرادة، أفرج عن كثير من الموسيقيين والسينمائيين والتشكيليين والكتاب والصحافيين… من قبضة الخوف والتردد، والارتهان بسوق السلطة والمال. فهل أجازف وأقول إن توقيع بعض الفنانين على هذا البيان هو أهم عمل إبداعي قدموه في مسارهم؟ يمكنني قول ذلك، طالما أنني أحمل تصورا عن أن الإبداع نقيض الاتباع، وطالما أنني أنظر إلى كثير من الأعمال الفنية باعتبارها نوعا من الاجترار لِما كان قائما من أعمال، والانجرار وراء ما هو قائم من سلطة. لذلك، فسعادتي مزدوجة. أولا، لأن المغاربة استعادوا فنانيهم ومثقفيهم. وثانيا، لأن الكتابة وكل الأشكال التعبيرية الفنية هي، بالضرورة، فعل نقدي. أن يصف كتَّاب وفنانون وصحافيون الأحكام الصادرة في حق معتقلي الريف وجرادة بالجائرة والقاسية، وألا يترددوا في إدانتها، بل ويُعربوا عن قلقهم من «عودة المحاكمات السياسية، واستصدار الأحكام والعقوبات القاسية في حقّ محتجّين وإعلاميّين، ومواجهة الحركات الاحتجاجية السلمية بالعنف ورفض الحوار»… هو حدث استثنائي لاعتبارين اثنين. أولا، لأن كثيرا من الموقعين على البيان تربطهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، عقود عمل بوسائل الإعلام العمومي، ويعرفون أن غربال التلفزيونات له عيون دقيقة وحساسة إزاء مثل هذه المواضيع، ومن الوارد أن يُعتبر توقيعهم على بيان مثل هذا إخلالا بدفتر التحملات المكتوب من محبرة «العام زين». وثانيا، لأن الأوضاع الاجتماعية والحقوقية وصلت إلى حد من التردي والتراجع جعل هؤلاء الموسيقيين والممثلين والكتاب والتشكيليين والصحافيين يكسرون سلاسل صمتهم، ومعها يكسرون أفق انتظار المتحكمين في المشهدين الفني والإعلامي، بصرخة قوية: أوقفوا هذا العبث، وأفرجوا عن معتقلي الحراك الاجتماعي «بالصيغ القانونية المتاحة، وبما يحفظ كرامة الجميع»، هكذا جاءت صرخة الموقعين على البيان خالية من أي مناشدة أو استعطاف لأي سلطة. لكن، أقوى ما ورد في هذا البيان، في نظري، هو هذه الفقرة: «نناشد جميع المؤسسات والنخب السياسية والحقوقية، وكلّ الضمائر الوطنية الحيّة والحكيمة، المؤمنة بقيم حرية التعبير والحق في الاحتجاج من أجل حياة كريمة، الإنصات لصوت المجتمع ولغضب فئاته، والانحياز إلى الإنصاف والعدالة، والعمل المشترك والمترفّع عن الحسابات السياسية الضيقة من أجل إيجاد حلٍّ لهذا الملف المسيء لصورة المغرب». فحتى عهد قريب، كان السياسيون يشتكون غياب الفنانين والإعلاميين عن هموم وانشغالات المجتمع. لكننا، اليوم، نجد أن الآية انقلبت؛ سينمائيون وتشكيليون وموسيقيون وإعلاميون وكتاب.. يوقعون بيانا واضحا وقويا لصالح الحراك الاجتماعي، وينتقدون «عودة المحاكمات السياسية»، وزعماء سياسيون يوقعون بيانا يُشيطن الحراك ويُخوِّن نشطاءه! والأكثر مفارقة في هذا الهرم المقلوب، هو أن يطالب الممثل والمغني والسينمائي، السياسيَ، بأن يتحمل مسؤولياته التي أهملها في جريه المحموم واللامشروط نحو المشاركة في حكومات لا تحكم. بيان الفنانين والإعلاميين والكتاب له أهمية أخرى، تتجلى في تزامنه مع حراكي الجزائر والسودان، اللذين تُعقد عليهما آمال عريضة لتتميم وتصحيح النسخة الأولى من الربيع العربي، والتي سطا عليها محور الثورات المضادة، ويراهن الديمقراطيون والقوى الحية في المغرب على أن يساهم نجاح التجربة الديمقراطية في هذين البلدين في وضع حد للتراجعات الحقوقية والاجتماعية والسياسية في المغرب، وتحقيق الانتقال الذي طال انتظاره نحو ديمقراطية كاملة. لقد أصبح الجيل الجديد من الفنانين والكتاب، وأغلبهم درسوا في أوروبا أو اطلعوا على تجارب إبداعية غربية، متأكدا من أن الثقافة لا يمكن أن تزدهر وتساهم في التنمية وبناء المواطن، إلا في ظل الحرية والديمقراطية والمنافسة والشفافية، ومع وجود مؤسسات ثقافية مستقلة وقوية. إن هذا البيان هو أقوى دليل على نهاية عهد الفنانين الذين كانوا ينفخون رؤوسنا بملاحم وأغانٍ عن الوطن والوطنية، لكنهم لا يقدمون أي شيء للظهور كمواطنين، بل إن بعضهم كان يوظَّف للتشويش على أي فعل مواطن.