أصبحت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء مكانا تخيم عليه صور مجازية من القيود والسلاسل، وكأنك بدخولها تنصت إلى صرخات غريبة لا تستحضر إلا الظلم والمعاناة. ربما، هي صورة قد تظهر في بادئ الأمر وكأنها مبالغ فيها، لكن ما إن تتذكر تواريخَ بعينها كليلة 26 من يونيو 2018، وتتذكر السنوات الثقيلة التي حكم بها معتقلو حراك الريف، حتى يعود مشهد الصراخ، البكاء والأنين، حتى الصامت منه وغير المعلن إلى أذهان حيطانها. تلك المشاهد ليست معزولة في مغرب اليوم، إنها مشاهد ترافقها أصوات خراطيم المياه وهي تبلل بذلة الأساتذة «المتعاقدين»، أثر «الزرواطة» التي تنزل على ظهور المحتجين، وسنوات ثقيلة يحاكم بها شباب في مقتبل العمر. تجلس أمام باب هذه المحكمة، تعيد كل مجريات المحاكمة منذ بداياتها، مرافعات الدفاع، شعارات العائلات، كلمات المعتقلين… كل ذلك يعود في لمح البصر وأنت تحدث تلك الجدران الصامتة. تلك الجدران الشاهدة على ظلم الماضي والحاضر، فالبيضاءالمدينة كانت في عمقها ذاكرة سوداء عند كل معارض زارها كي ينعم بكرامة ضيافة الاعتقال والقمع في أسوار سجونها. محاكمة ضاعت معها سنتان من عمرنا، قضيناها بين التشبث بالأمل وبين الحسرة، على وضع ضرب حتى الحدود الدنيا من المكتسبات التي بناها من سبقونا. طبعا، مسؤولونا لا يعترفون بكل هذا، فهم إما نوام يحسبون تراكم أموالهم، أو منكبون لصياغة المزيد من الخطط كي يخرسوا صوت كل من قهرته حكرة الفقر وعصا القمع. هم لا ينصتون لآلام أمهاتنا، ولا لتقارير منظماتنا، ولا يأبهون لمسيراتنا ولا لهتافاتنا. فكلنا عدميون وخونة في نظرهم، لا هدف لنا إلا تشويه صورة هذا الوطن، ولا موضوع لنا إلا زرع الفتنة والضجيج في هذا البلد. نحن مرضى بالحقد الطبقي، نحسدهم على غناهم ونلومهم على فقرنا الذي قدره لنا الله، والذي لا شأن لنهب ثرواتنا وحرماننا من حقوقنا فيه. ننتظر أحكام الاستئناف، كما انتظرنا الأحكام الابتدائية، بالتوتر نفسه، بالقلق نفسه، وبالكثير من الأمل نفسه. ولكن هل سيسطرون هم العقوبات الظالمة نفسها بموت الضمير نفسه، وبالقسوة نفسها على الوطن. نعم، هناك شيء اسمه الصراع في السياسة، ولكن هناك أيضا شيئا اسمه قيم العدل والعدالة، والتي يقتلونها في كل يوم كلما قرر البعض منا أن ينتفض ضد الظلم والحكرة. نعيش اليوم، الأطوار الأخيرة لنهاية المسطرة القضائية، ولا شيء في الأفق، لكن الأكيد أن ذلك الصمود سيجعل تلك الأسوار المقفلة تنهار. إذ في النهاية الحقيقة لا تحجبها حتى الشمس الحارقة والعدالة لا تنتظر كثيرا كي ترسم معالمها حتى ولو ذرفنا المزيد من الدموع. الكثيرون يترقبون، هناك من يفعل بصمت، وهناك من يفعل بمقاومة. المنتظم الدولي غارق في حساب عدد الموتى، وفي حصد نتائج أحداث الحروب الأهلية حتى أصبح السجن والاعتقال بالنسبة إليه استثناءً وتقدما حقوقيا، مقارنة مع ما يقع في بلدان الجوار. بعض السياسيين والمثقفين بلعوا ألسنتهم، فهم يعلمون جيدا أن «ماكينة» السحق لن يسلم منها اليوم، كل من سولت له نفسه أن يتموقع خارج النسق متناسين، ربما، أن بشاعة القمع لا توقفها إلا المقاومة وإعادة ترتيب كل الأوراق، وأولها ورقة الحرية. لو قام السياسي بدوره في التعبير عن احتجاجات الشارع وخلق اصطفافا موضوعيا بين مؤيد ومعارض، وخلق فضاءات للأخذ والرد من أجل بناء التغيير، لأعفانا جميعا من كل هذه السحابة. إنهم يعلمون أكثر منا أن المغاربة فقدوا منذ زمن ثقتهم في كل المؤسسات، وخصوصا المؤسسة القضائية، المؤسسة المفترض فيها الانتصار للمظلوم، كيفما كانت صفة وسلطة الظالم. إنه امتحان، ربما، للمرة الألف لهذه المؤسسة كي تبني استقلاليتها وكي تثبت للمغاربة وللعدميين مثلنا أنها إلى جانب الحق والحقيقة. لا أريد أن أعطي أمثلة ودروسا مما يقع لدى جيراننا جنوبا وشمالا، لأنني أريد أن أفتخر وفقط، بوطني، لكن ارتفاع عدد المظلومين في السجون بمباركة القضاء يجعلنا نبكي حسرة على وطن قدم شعبه الكثير من التضحيات كي ينعم بالكثير من الحرية والكرامة. لا أعلم كيف ستكون الأحكام، لكني أتمنى أن يكذبنا القضاء هذه المرة، ويقول لنا بأننا عدميون مخطئون في حقه، وأنه لا يمكن أن يستعمل في حساب سياسي ضيق. لا أريد أن أخاطب القاضي، ولكني أخاطب ضمير العدالة و ضمير الوطن، أخاطب كل من له القدرة اليوم، على إيقاف نزيف القمع والاعتقال، أعفوا الوطن من حرج أن يتحمل عبء معاناة إنسانية ثقيلة، وكلفة سياسية وحقوقية ستدوم لسنوات مقبلة بسبب أنانيات تجعلنا ندفع الثمن باهظا وأولنا مستقبل هذا الوطن في كل مرة. الانفراج السياسي سيجعل المشهد يتنفس قليلا كي تبنى البدائل وتتطور بشكل طبيعي ليبني الجميع الدولة والمجتمع الذي نريد، أما إغلاق المنافذ وإحكام القبضة الأمنية سيقتل كل الإرادات ويقوي التوتر والانفعالات، التي لن تبني ولن تخلق، لا بديلا ولا وطنا في النهاية. هناك شيء أقوى من المال والسلطة والمصلحة، إنه الوطن وأتمنى أن نفهم يوما معناه.